موقف الجابري وأركون ونصر حامد أبو زيد من التراث
تحرير: نصيرة مصابحية
أستاذة بالمركز الجامعي سوق اهراس
تبلور الخطاب الفكري في عصر النهضة في خضم الصراع بين تيارات مختلفة، تحاول تأصيل أفكارها من أجل تجاوز الأزمة الحضارية. فلقد برزت مجموعة مـن التيارات التي تنادي باعتناق الـفكر الغربي كأساس منهجي علمي، يساعد العقل العربي على تخطي أزماته الفكرية واللحاق بركب الحضارة العالمية ،وهناك مـــن رفض هذا الفكر وحاول الرجوع إلى التراث، باعتباره القاعدة الأساس التي من خلالها نستطيع الحفاظ على الهوية العربية ،أما التيار التوفيقي فـقد نادى بضرورة التـوفيق بين الفكر الغـربي و الموروث العربي لضمان التحديث والسير بالفكر العربي في مسار الـتقدم و العلمية ، وقد انقسمت الساحة النقدية والفكرية إلى : تيار علمي علماني وتيار سلفي، يتجاذبان العقل العربي و يحاولان صياغة الخطاب الفكري العام صياغة إيديولوجية في أغلب الأحيان، فالتيار العلماني يـدعو إلى اعتناق الفكر الغربي و نبذ التراث الذي أصبح في نظرهم قاصرا عن احتواء الإشكاليات الفكرية الراهنة، أما التيار الإصلاحي فقد رأى في التراث العربي ضالته،لأنه يحمل من الفكر الحداثي العربي ما يماثل الفكر الغربي، لذلك دعو إلى تبنيه . ومن هذا المنطلق عرفت الثقافة العربية الحديثة مجموعة مـن المفكرين و الــنقاد الذين حاولوا بلورة الخطاب الثقافي العام من منطق فكري و منهجي ، حيث شكل التراث القاسم المعرفي المشترك بينهم.
وقد تعددت آراؤهم واختلفت مناهجهم، فمنهم من درس التراث من منطلق عقلاني ، محاولا تغيير نمطية الدراسات الفكرية وإخراج الإرث الثقافي من دائرة الاستهلاك والاجترارية، ويعتبر محمد عابد الجابري من أهم المفكرين الذين نادوا بهذه الفكرة ، كما نادى آخرون بضرورة التخلص من الفكر الاستشراقي و إعادة صياغة الموقف الفكري الراهن انطلاقا من إعادة استيعاب الذات العربية و جعلها المدار الأساس في الدراسة، و قد حــمل محمد أركون لواء هذه الفكرة ، أما نصر حامد أبو زيد وحسن حنفي فـقد حاولا إعادة تأويل الـنص الـديني، و الخطاب الديني من منطلق تاريخي ، وعلى أسس مختلفة.
أما النقاد فقد اختلفت مناهجهم و تنوعت،فمنهم من نادى بالخرق و رأى فيه معيارا نقديا، يبرز الجوانب الحداثية في التراث العربي و يعتبر أدونيس من أهم ممثليه ، أما بالنسبة لعبد الله الغذامي فقد رأى بأن التراث تتحكم فيه مجموعة من الأنساق الثاوية بين أرجاء نصوصه الإبداعية و التي تمارس إشعاعها الجمالي و الفني ، على النص و على متلقيه لذلك يدعو إلى اكتشافها من خلال آلية النقد الثقافي ،أما عــبد العزيز حمودة فهو يرى بأن التراث زاخر بمختلف الإشارات التي تصلح أن تكون مبادئ لنظرية عربية أصيلة .
ولكن مهما اختلفت الـرؤى والإجراءات المنهجية المتبعة من ناقد إلى آخر ومن مفكر إلى آخر، فإن هؤلاء جميعهم حاولوا إثراء الموقف الثقافي العام، وانتشال الفكر العربي من براثن الجمود والتبعية
1- التراث في كتابات محمد عابد الجابري :
النظرة العقلانية للتراث :
ينطلق الجابري في مـشروعه الفكري من نقد مقومات العقل العربي ومرتكزاته المعرفية ،متجاوزا بذلك فكر المصلحين النهضويين لتأسيس وعي نقدي قائم على الديمقراطية والليبرالية والحداثة، محاولا بذلك إرساء دعائم الفكر التراثي الأكثر نضجا وعلمية، وإعادة قراءته من منطلق حداثي ، مستثمرا بذلك المناهج الغربية لدراسته .
ويرى الجابري أن التراث يتطلب قراءة نقدية جديدة و جدية ، تسعى إلى الكشف عن مكامن قصوره ومحاولة تخطيها ، وذلك بالاستفادة من المواقف التراثية التي شهد لها بالعلمية والـتفوق و القــدرة على التحــقق في الواقع الفكري الراهن ،من خلال إعادة صياغتها من جديد .
ويرى بأن هذه الإمكانية لا تتحقق إلا من خلال تطبيق بعض المناهج الغربية باعتبارها أدوات منهجية علمية تساعده على كشف أغوار التراث، " لذلك استحضر أطرا مرجعية مختلفة ، من الديكارتية إلى فلسفة الأنوار التي تـظهر جليـا في تركيزه على فكــرة التقـدم والعـقلانية ، كما نلمس حضورا متميزا لفلسفة فوكو M .Faucoult و التو سير L.Athusser و غراميشي A Gramsci و الماركسية في صورتها النقدية و ليس في شكلها العقائـدي" 1.
وهـو بذلك يقول بفكرة عالمية الثقافة،وإن الفكر الغربي بحداثته ما هو إلا جزء من المـورث الحضاري الإنساني،حيث يستطيع الناقد العربي استثماره بما يخدم رؤاه وخلفياته المعرفية، ،وبـذلك فإن هذا المفكر يدعو إلى تطـويع المناهج الغربية ،وإعادة صياغة بعـض أسسها بما يخدم خصوصية النص التراثي ،انطلاقا من فكرة قابلية المنهج للتغيير،ولا يعني هــذا اجتثاث المنهج الغربي من سياقاته المعرفية وإنما هي دعوة علمية رصينة تحاول تأطير المناهج الغربية ضمن فضاء فكري و ثقافي عربي، من خلال إعادة البلورة المنهجية العلمية الدقيقة ، فهو بهذا يضع الحداثة الغربية في ، " سياقها التاريخي و ملابساتها السوسيوثقافية ،ومن خلال هذه الرؤية النقدية المتبصرة،يحـاول استثمار إنجازاتها المعرفية و المادية بما يتماشى وخصوصية الواقـع العربي"2 .
فالتراث في فكر الجابري قد شكل القاعدة الأساس التي من خلالها نستطيع تغيير الموقف الفكري الراهن ، لــذلك يطرح هذا المفكر العقلانية كرهان نقدي و فكري ، يساعــــد عـلى تأصيل حداثة فكرية، بدل حداثـة عصر النهضة العربية المستلبة التي زادت من تعميق هــوة الاغــتراب الذاتي للمفكر العربي ، و ضياعه ضمــن قـطبين متعاكسين ، إما الانبهار بالــفكر الغربي و رفض المـوروث بصـفـة مطلـقة ، أو الارتماء في محراب الماضي و تقديسه و رفض الفكر الغربي رفـضا مـطلقا ، وقـد أدى هـذا التشتت في المواقف حــسب الجابري ، إلى افتقار الساحة الفكرية لمنهج علمي دقيق، يـساعد الباحث على رصد الــظواهر الفكرية بطريقة علمية دقـيقـة واعية حيث يقـول : "إنه بـدون التعامل العقلاني مع تـراثنا لن نتمكن قط من تعميم الممارسة العقلانية على أوسع قطاعات العقل العربي المعاصر ، القطاع الذي ينعت بالأصول حينا و السلفي حينا آخر ، كما انه يبدو بدون هذه الممارسة العقلانية على معطيات تراثنا ، لن يكون في إمكاننا قط ، تأصيل العـطاءات الفكرية التي يقدمها أو بالإمكان أن يقدمها قطاع آخر من فكرنا العربي المعاصر ." 3
فتغيير مكونات فهمنا للخطاب الديني ،حسب الجابري يفرض علينا تحريره من سلطة الإديولوجيا السياسية ،التي كانت توجهه و تفرض عليه دعمها ،ومن هنا تحـددت فـاعلية العــقل العـربي في إنتاج وعيها بما يخـدم الساسة و أفكارهم ،وبالتالي تأطير جميع العلوم العربية بسياج سياسي، أدى إلى تحويل مبدأ الفاعلية إلى مفعولية سالبة، حجرت العقـل العربي وحجزته ضمن منظور إيديولوجي مغلق لذلك فإن رهان العـقلانية الذي طرحه بديلا يساعد حتما على ترميم تلك الفجوة الإبستيمولوجية العميقة التي خــرفت العقل العربي جراء تحكم السياسة في مجاله المعرفي، " لقد كانت المواقف السياسية وهي جزئية بطبيعتها يبحث لها عن سند من الدين وكــان ذلك أولى الخطوات التنظيرية التي أسست ما سيطلق عليه فيما بعد اسم علم الكلام،إذن فعلم الكلام في حقيقته التاريخية لم يكن مجـــرد الكلام في العــقيدة بــل كان ممارسة للسياسة في الدين، وعنــدما اتجـهت المعارضة ثم مـــن بعدها الدولة على الموروث كان هـدفها هو توظيفه في نفس الممارسة السياسية في الدين " 4.
وحتى نجتاز تلك الحـواجز الإيديولوجية التي صنعها المتقدمون يجب علينا أن لا نقيد أنـــفسنا بقضايا التراث الماضية دون تعديل ولا نقد،لأن الساحة النقدية والفكرية لطالما أعادت قضايا تراثية واهتمت بجـردها واستهلاكها كما هي ، وبالتالي شــغل العقل العربي المعاصر نــفسه بإشكاليات التراث القديم وهمومه الماضية دون أن يشارك في حل أزماته "إن الساحة الثقافية العربية الـــراهنة التي يتكون فيها العقل العربي المعاصر ساحة غـريبة حقا إن الـــقضايا الفكرية السياسية الفلسفية والدينية التي تطرح فيها الاستهلاك والنقاش قضايا غير معاصرة لنا،إنها قضايا الماضي تجتـر اجـترارا من طرف قسم كبير من الفقهاء والعلماء والأدباء أولئك الـذين يعيشون مغتربين بعقولهم عـن الماضي محكومين بكل سلطاته الظاهرة منها والخفية السياسية والإيديولوجية " 5.
وانطلاقا من هذه الفكرة فإن التراث في بعده المعرفي،أصبح يشكل حلقة إيديولوجية ضخمة أعاقتنا عــن استيعاب واقعـــنا وماضينا بالطريقة الصحيحة، لذلك يدعو إلى قراءته قراءة عقلانية تساعده على الـتبلور فكرا وإرثا ثقافيا له وزنه في حاضرنا بعيدا كل البعد عن التعصب والأدلجة .
و نجده يصر على إعادة فهم ابن حزم والشاطبي اللذين أسسا بحق وعيا علميا جديدا بالنص القرآني وعلم أصول الفقه إذ أخرجاه من دائرة المتعارف والمألوف وصبغاه بصبغة عقلانية ترمي إلى إعادة تفعيل الفكر العربي الذي اختصر في مجال توليد النصوص وتفسيرها .
فابن حزم من خلال منهجه الظاهري حاول أن يقطع الحبل السري مع مجمل الثقافة السائدة، حيث دعا إلـــى التنصل من ســـلطة السلف أي الـــتخلي عـن التقليد وسلطة القياس التي تعتبر أهـم مكونات الـفكر العربي. فالقياس أدى إلى الابتعاد عن الأصول وتشعب النزاعات والـخلافات حــول القضايا والأمور الدينية لأن أهل القياس"جميعهم مختلفون في قياساتهم ،لاتكاد توجد مسألة إلا توجد طائفة منهم تأتي بقياس تدعي صحته وتعارض بت قياس أخرى وكلهم مقرون مـــجمعون عـلى أنه ليس كل قياس صحيحا ولا كل رأي حقا "6
فالجابري يرى أن ابن حزم استطاع أن يعقلن فهمنا للدين ،حيث استوعب الخطاب الديني من منطلق منطقي رافضا بذلك فكرة العلة الفقهية التي أحل محلها فكرة العقل التكويني أي" الانتقال من المقدمتين إلى نتيجة تلزم عنهما لزوما ضروريا،أو الانتقال من لازم إلى ملزوم أومن كلي لـجزئي إلى غير ذلك من القواعد المنطقية التي يجتهد ابن حزم في تطبيقها بل وفي تبييئتها مع موضوعه، والشيء الأساس الذي استبعده ابن حزم استبعادا تاما هو التعليل الذي يبنى عليه القياس الفقهي" 7.
وانطلاقا من الاتجاه الظاهري الذي سلكه ابن حزم في تعامله مع البيان العربي فإن الجابري يدعو إلى التعامل مع التراث مــن منطلق عقلاني لأنه المنهج الأنسب الذي من خلاله نستطيع أن نكتشف الدرر الحسان في الفكر العربي التراثي،وأن نطوع هذه الدرر بما يخدم الواقع الراهن .
فتجديد العقل عند الجابـري إذن هو ذلك التفاعل بين مرحلتين تـاريخيتين على المستوى الفكري، فالتراث هو الوسيلة التي من خلالها نتخطى الأزمة الفكرية الراهنة ،لأنه يــحمل مكونات العقل العربي و يعتبر نتاجا له فاعلية إيجابية ، من خلال إعادة تمثله تمثلا عقلانيا واعيا.
2- نصر حامد أبو زيد :
القراءة التاريخية:
يرفض نصر حامد أبو زيد النظرة السكونية المتوارثة و يدعو إلى صياغة الفكر العربي عامة، انطلاقا من خلخله البنى المعرفية المتأصلة في الثقافة العربية،فهــو يحاول بلورة نــظرته الشمولية على أساس فكرة البعث، أي انه يحاول أن يصوغ التراث خصوصا الديني صياغة جـديـدة باستخدام الآليـات والمناهج الـعلمية ـ بطبيعة الحال ـ الغربية ،هذه الــصياغة إنما كانت مستندة إلى أفكار عـصـر النهضة الغربي خصوصا فكرة "العلمانية" ، و قد تحولت هذه الفكرة عــند أبي زيد إلى رغبة جامحة في إلغاء القداسة عن التراث و فصل التراث كمعطى فكري إنساني عن القرآن "و بعبارة أخرى أدى التوحيد بين الدين والتراث إلى إضفاء الـــقداسة على ذلك التراث، وإلى تحويله من مرتبة النصوص الثانوية إلى مرتبة النصوص الأولية واقتصرت مهمة العقل على التكرار والشرح والترتيب، وقد أدى هذا كله إلى ركود الثقافة التي عززت بدورها ركود الواقع العربي المنتج لهذه الثقافة"8.
لذلك نجده يؤكد على التحرر من سلطة السـلف الدينية التي تحـولـت في وقتـنا الراهـن إلى ايدولوجيا فكرية ودينية ألغت مبدأ العلمية، وفسحت المجال أمام "مبدأ الحاكمية"، الذي أنتج بدوره أنماطا خاصة في التفكير ، قولبت الفكر العربي الإسلامي ضمن مجموعة من الآليات التي يعـد الخروج عـنها ضربا من الإلحاد و الكفر .
وانطلاقا من هذه النقطة فإن أبا زيد يقوم بالتفرقة بين الخطاب الديني والدين باعتباره مجموعة مـــن النصوص التي على ضوئها يفسر القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فهذه النصوص هي التي تساعد على فهم النص القرآني، أما الدين في نظره فهو عبارة عن نص مقدس ثابت تاريخيا.
و بالتالي فهو يحاول تأسيس منظومته الفكرية على نقد تلك النصوص التراثية "التفسير،الاجـتهاد، الاستنباط "، و التي يرى بأنها غيبت العقل و الوعي العلمي العربي و جعلت الثقافة العربية ككل تختزل في آلية تفسير النصوص و شرحها، حيث يقول:" هكذا تحددت قوانين إنتاج الـمعرفة في الـثقافة العربية على أساس سلطة النصوص وأصبحت مهمة العقل العربي محصورة في تـــوليد النصوص من نصوص سـابـقة"9 . لقد أصبحت أقوال العلماء واجتهاداتهم نصوصا مشرعة وانحصرت بذلك مشروعية العـقل العربي في مجال محدد وهو مجال توليد النصوص وشرحها، و قد استفحلـت هذه الظاهـرة لتـشمـل العـلوم العربية برمتها، حيث يقول :" واقتصرت المؤلـفـات على أن تـكـون شروحا لمؤلفات سـابقـة و قد يوضـع المـتن في الهـامـش الجـانبي و يـتناول الــشـرح عـبارة الأصل المشروح عبـارة عبارة بـشرحها اللغـوي والفقهي و بيان ما غمض من شأنها ثم تكثر الشروح على الشروح، ولم تنج العلوم العقلية من المصير ذاته وصارت كتب علم الكلام المتأخرة شروحا على متن قديمة " 10 .
ومما ساعد على تثبيت هذه الآلية و تعميقها في الفكر العربي إلى وقتنا الراهن هـو نمطية الخطاب الديني المعاصر الذي يحاول تأصيل السلفية لخدمة أغراضه الايـدولوجيا " وجعل الإسلام الإطار المرجعي الوحيد لكل معرفة ولكل ممارسة وسلوك" (11) ، لــمواجهة الآخــــر المسيحي الذي أصبح يشكل أحد طرفي المعادلة النهضوية،وقد استغـل هذا الأخير موقف"الإطارالمرجعي الوحيد" ورسخ فكرة أن الإسلام هو العامل الأساس لتخلف الـعرب والمسلمين، و قد قامت الجماهير العربية باحتضان هذه الصورة السلبية وأعادت صياغتها في ذلك التشتت الفكري الذي شهده عصر النهضة العربي حيث انقسمت الساحة الفكرية إلى تيار علمي علماني و إلى تيار ديني إصلاحي.
ويرجع أبو زيد فشل النهضة العربية إلى غياب وعي علمي بالتراث و تعقد عـلاقتنا بالآخر، بالإضافة إلى إهدار التاريخية من السياق الـثقافي العـام. فالتاريخية كمفهوم إجرائي حسـب أبي زيد يستطيع أن يحرر الفكر العربي من سطوة التراث وشمولية الفكر الديني،الذي اختزل العـقـل العربي فـي مفهوم ماضوي ســلبه إمكانية الـتطور و التقدم .
فالخطاب الديني منذ عصر التدوين سطر طرائق خاصة في الـتفكير،وتعتبر القداسة والسلطة من أهــم إفرازاته ،لذلك فإن أبا زيد يبدأ من المسلمات التي رسخها الخطاب الديني التراثي و جعلها قواعد شرعية،وذلك بنسفها و إلغاء القداسة عنها و أول قاعدة يبدأ بها هي قضية"خلق القرآن".
فهو يرى بأن القرآن باعتباره خـطابا إلاهيا لا يعني عدم قابليته للتحليل وفـقا للمناهج العلمية الغربية ،لأنه تجسد باللغة الإنـــسانية "العربية"،و بالتالي فهو نص تاريخي له وجـوده الفعلي في الزمان والمكان،لذلك يجب علينا أن نـفهم الـقرآن فهما مغايرا ومحايدا عما ورثناه،لأن الخطاب الديني المعاصر يهدف إلى ترسيخ الماضي في الحاضر كما هـو، بالإضافة إلى أنه ضاق عن استيعاب الواقع المعاصر وعـجز عن التعبير عن مشاكله، وبالتالي فإن تغـيير واقـعنا حسب أبي زيد مرهـون بتغيـير موقفنا من التراث، و بتجـديد طريقة فهمنا للـقـرآن.
3- محمد أركــون :
الإسلاميات التطبيقيـة :
خطا نقد الفكر العربي والإسلامي بصفة عامة عند أركون خطوات نحو إقامة قطيعة معرفية مع الكتابات الإيديولوجية التي قرأت التراث،وذلك بإرساء أسس المـناهج الغربية كتقنيات إجرائية تساعد على بتر الصلة مع التيارات السلفية العربية والثقافة السائدة ، بغية إقامـة منهـج علـمي حديث يتجـاوز نـظام الفكر المؤسس،و ذلك لتحقيق التغيير الاجتماعي و الفكري على حد السواء.
وفي هذا الإطار ينطلق محمد أركون من نقد الإسلاميات الكلاسيـكية ( الاستشراق) الـتي يـرى بأنـها تناولت الفكر العربي الإسلامي تناولا خارجيا وظيفيا لا يتعدى حدود الدراسة الشكلية البحتة ، فهي لم تدرس ذلك الفكر من"خلال عملية انخراط ابستمولوجي كاملة " (12) ، بــهدف الــوصول إلى مكامن الضعف في الثقافة العربية الإسلامية، وإيجـاد الحلول المناسبة لتخطيها, و إنما كـــان هدفها هو تثبيت مـركزية الفكر الغربي،"و من الواضح أن منهجية الاستشراق لا تؤدي في معظم الأحيان إلى تعرية الـمشاكل وآليات الهيمنة والتسلط السائدة في المجتمعات العربية الإسلامية و هي تبدو في معظم الأحيان متواطئة مع الأرثوذوكسية و الـفئات المهيمنة داخل هذه المجتمعات بالذات، فهي باختصار لا تـؤدي إلى تحرير الفكر وهو آخر شيء تفكر فيه " 13.
يـدين أركون الإسلاميات الكلاسيكية لقصور منهجها عن احتواء الفكر العربي الإسلامي بطريقة علمية تساعده على تجاوز محنه الكثيرة و مآزقه الابستمولوجية ، لذلك نجده يرفض آليات الفكر الاستشراقي لأنها تحصر التراث العربي و الإسلامي في مجال الدراسة السطحية الخالية من أي محاولة نقدية جدية ،وبالتالي اختزال فاعلية الـفكر العربي الإسلامي في بوتقة المبدأ الاختياري، الذي شنه المستشرقون كأساس لدراسة ذلك الفكر. ومن هنا فإن الاستشراق –حــسبه- يساهــم فــي " ترسيخ ما يدعوه أركون بالسياج الدوغمائي المغلق ، في حين ينبغي على الباحث أن لا يكتفي بنقل الـــتراث كما هو ولكـن بعد نـقله يـبتدئ بتفكيكه و تشريحه عـــن طـريق الدراسة النقدية حتى تستفـيد منه المجتمــعات بصورة إيجابية "14 .
فــدراسة الــموروث الفكري العربي من قبل المستشرقين حجب الكثير من التفاعلات الفكرية العربية وسار بالـموروث في اتجاه المـوقف الإخــباري ،لأن الباحـــث الغربي حــرم الفكر العربي و الإسلامي من الدراسة العلمية القائمة على أساس تطبيق الإجراءات المنهجية الحداثية كالألـــسنية و الأنتروبولوجيا والتفكيكية وغيرها من الإجراءات العلمية، التي تساعد على كشف حـــقائق الـفكر الـــتراثي العربي الإسـلامي والـمساهمة فـي تغيير واقـعه الفكري المتأزم، اكــتفى بسجنه في إطار الاثنوغرافيا (الـنظرة الفـلكلورية الإحتـقارية) كمنهج الدراسة .
لذلك يندد أركون بتلك المواقف الغربية خصوصا ،"بالـموقف السائد للفكر الغربي اتجاه الثقافات الأخرى التي يتحكم بمسارها و تطورها عن طريق فرض نماذجه و قوالبه... أقول إن عليه أن يـتراجع من النظرة الإثنوغرافية التي يحملها تجاه الثقافات الأخرى, في الوقت الذي ينبغي عليه أن يـطبق على المجتمعات الغـربية نفسها و عـلى تراثاتـها الثـقافـية منهجية المقاربة الأنثروبولوجيا ضمن الخط الذي افتتحــه، (George blindiez) جورج بلانــديــه أو (pierre Bourdieu) بــيـير بـوروديـو،ينبغي أن نلاحظ أن الفكر الغربي يرفض الانخراط في خط كهذا"15.
فالـفكر الغربي إذن يزاوج بين منهجين للدراسة أحـدهما علمي دقيق يطبقه على ثقافته وموروثه الفكري، والآخر إيديولوجي يهدف من خلاله إلى تثبيت مركزيته الفكرية والإعلاء من شأن صورته العلمية، وهذا بـدراسة الموروث العربي الإسلامي دراسة إسترجاعية، تقوم على ســرد المواقف السالبة في هذا الفكر بالإضافة إلى حـصره في التجليات الأصولية المتزمتة للدين، أي تأطيره ضمن (سياج دوغمائي مغلق).
يقصد أركون بهذه الفكرة سيطرة الفكر الديني السكولاستيكي على واقع الثقافة العربية الإسلامية، وخلوها من أي فــكر فلسفي أو علمي يساعد على تطوير الواقع الثقافي وبالتالي سجن العقل العربي والإسلامي بصفة عامة في عملية استنباط الأحكام من النص المؤسس "الـقرآن"، ومحاولة تطبيقها على الواقع مما أدى إلى تنميط فاعلية العقل العربي في آلية توليد النصوص كما يقول أبو زيد.
ويثور أركون على هذه الآلية محاولا إقامة بديل فكري يساعد العقل العربي والإسلامي على تخطي أزمته، وهذا وهي حسبه عـبارة عن "قراءة ماضي*البديل يطرحه في فكرة الإسلاميات التطبيقية، الإسـلام وحاضره انطلاقا من خطابات المجتمعات العربية الإسلامية وحاجاتها الحالية".16
فهو يسعى إلى تحليل الواقع الفكري والاجتماعي بعيدا عن سلطة السياج الـدوغمائي المغلق و ذلك بتطبيق مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية والتي يعتبرها وسيلة ناجعة لإبطال مــقولة أن الـتراث هو ذلك الـمعطى الفكري المكتفي بذاته،والذي نستطيع توظيفه في واقعنا المعاصر لحل أزماتنا الفكرية الراهنة،لذلك يــحــاول النفاد إلى عمق المشكلات من خلال ، "عملية انخراط ابستيمولوجي كاملة "17.
ومن خلال نقد العقل العربي والإسلامي يحاول أركون صياغة الموقف الإشكالي العام، والذي يتمثل في تلك العلاقة القائمة بين التراث والحداثة فهذه الإشكالية حظيت طيلة سنوات كثيرة باهتمام كبير من قبل النقاد و المفكرين، الذين ترصدوها منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا، و قد صيغت هذه الإشكالية بطرق مختلـفة أدت إلى ثـــراء الساحة النقدية والفكرية بالكثير من المواقف المختلفة والمتضاربة في أغلب الأحيان، ويحاول أركون حل هذه الإشكالية من خلال إرساء (وعي تاريخي) الذي أحله محل التفسيرات اللاهوتية والأسطورية، و ذلك حتى يكتسب الفكر العربي الإسلامي بعدا علميا أكثر،و نجده في هذا الصدد يميز بين مصطلحين متقاربين (الحداثة و التحديث) ، و يرى بأن هذا الأخير (التحديث) مقتصر فقط على تطبيق المناهج الغربية و الفكري الغربي بطريقة آلية على الواقع الفكري الإسـلامي العربي دون أي خلق أو محاولة تعديل، أما الحداثة التي يعنيها هذا المفكر فهي التي تتخطى حـدود الزمن و تلغي حواجزه لأن الحداثة أكبر من أن تؤطر بسياج التاريخ فـهي "موقف للروح أمام مشكلة المعرفة"18 .
ومن هنا فإن أركون يدعو إلى حداثة علمية واعية تتجاوز كل أنماط التحديث السطحي،و ذلك من خلال قراءة " جـديدة بعيدة كل البعد عن*الموروث و الواقع الفكري قراءة إنسية " Humanisme الاتجاه القروسطي،الذي يشكل نوعا مـن الوصايا الفكرية على النتاج العقلي العربي الإسلامي، فإذا استطعـنا التحلل من ذلك الاتجاه حسب أركون استطعنا أن نتحرر من قبضة الثقافة الموروثة و أن نعتلي أول درجة في سلم التطور الفكري و العقلي.
الهوامش:
1- عبد الوهاب شعلان : إشكاليات الفكر العربي المعاصر في أطروحات أركون ، الجابري العروي ، حسن حنفي ، علي حرب، مكتبة الآداب القاهرة ، ط1 2006 ، ص26
2- المرجع نفسه : ص 26
3- عابد الجابري :-بنية العقل العربي : دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ط1 1986 ص 552
4- محمد عابد الجابري : تكوين العقل العربي مركز دراسات الوحدة العربية بيروت دار الطبيعة ط 1 ، 1984 ، ص 303
5- محمد عابد الجابري : بنية العقل العربي ص 572 -
6- محمد عابد الجابري : تكوين العقل العربي ص 303
7- المرجع نفسه :ص 305
8- نصر حامد أبو زيد: النص السلطة الحقيقة, المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب, الطبعة الخامسة 2006. ص20
9- المرجع نفسه ص19
10- المرجع نفسه ص20
11- المرجع نفسه ص20
12- عبد الوهاب شعلان : إشكاليات الفكر العربي المعاصر ص18
13- محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد و اجتهاد, المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر, د ط , 1993 ص194
14- فارح مسرحي : الحداثة في فكر محمد أركون مقاربة أولية, الدار العربية للعلوم الجزائر ط1 2006, ص102-103
15- محمد أركون : الفكر الإسلامي، ص32
16- المرجع نفسه : ص31-32
17- عبد الوهاب شعلان :إشكاليات الفكر العربي المعاصر ، ص 18
18- المرجع نفسه : ص 2