الترجمة


النمذجة و علوم المهندس ـ نيكولا بولو.
 ورد في المؤلف الجماعي: بحث حول مفهوم النموذج ـ إدارة باسكال نوفال.
ترجمة:خالد كلبوسي
 ـ لم تفقد المعارف المرتبطة بالوحي أبدا تأثيرها منذ قرون.تستمر الأديان و مؤسساتها, وتتكاثر الفرق بالإضافة إلى أشكال ناجحة من السلطة الاقتصادية, و يضخم الإعلام من قيمة المعتقدات الغيبية.في هذا الخضم, يحافظ العلم, بما هو بناء معارف موضوعية كونية مراقبة تجريبيا, على صرامة أحكامه التي سلّم بها فلاسفة الأنوار.فهو حقل محايد لوصف الوقائع وترابطها,و " يتخلى عن البحث في أصل الكون و مصيره و معرفة العلل الخفية للظواهر,ليهتم فقط باكتشاف قوانينها الفعلية أي علاقات التتالي و التماثل الثابتة فيما بينها, باستخدام مركب صارم من التجربة و الاستدلال".لكن يجب أن نشير أن الوضعية تذهب أبعد من ذلك و لا تتردد في اعتبار هذا الفكر الإطار الملائم لتسيير أفضل للشؤون الإنسانية بمجرد استبعاد " المجازات المأخوذة على أنها استدلالات" وتأسيس " القواعد العامة الملائمة للبحث الصارم عن الحقيقة".فمن سمات الحداثة,عموما,اعتبار أن المتطلبات المنهجية للعلم لا تلائم حركة المعارف فحسب, بل هي شرط كل تقدم حقيقي لها باستبعاد كل شكل آخر من التمثل و الفهم.فيما بعد,في مجال ممارسة الطب,سيكون كلود بارنار من دعاة الاقتصار في العلاج على الوقائع الملاحظة فقط وعللها الفعلية.هكذا,خلال القرن التاسع عشر,وبتشجيع من النمو التقني لن يبنى العلم الحديث باعتباره جمع للحد الأدنى من التمثلات المتفق حولها بل يزعم واثقا من نفسه أنه اللغة الوحيدة للحقيقة و النجاعة.

ـ عرضت صعوبات في مجالات عديدة لم  يشك فيها الوضعيون أو عملوا على إخفائها ,ستغير هذه الرؤية المانوية.في البداية يبين التفكير في أسس علم الاجتماع أن اجتماعية وعي الملاحظ لا يمكن استبعادها, وبعيدا عن المحاذير المنهجية ,تكمن مساهمة الأعمال السوسيولوجية خاصة في الفهم الذي يظهره الباحث من خلال تعاطف مميز مع الوضعيات المدروسة.إضافة إلى ذلك,رغم أن مكانة التحليل النفسي العلمية ليست محل جدل بعد مؤسسه,تعترف الانتقادات بأن تطبيقاته لها مردود علاجي معين و موضوعيّ(غرونبوم) رغم أنها قائمة على علاقات ذاتية(ريكور).وخلال القرن العشرين, يتم اكتشاف المحدودية الداخلية للشكلانيات ( مع غودل و تشورش و تورنغ) و الإثبات التجريبي للمبادئ الغريبة للفيزياء الكوانطية (اللاانفصال) و خاصة نمو " الأبحاث الاجتماعية" ,بعد أعمال توماس كون,حيث يدرس العلم في مؤسساته و روابطه مع التقنية و المسارات الاجتماعية لمجادلاته,أحدث شرخا عميقا.يبقى العلم في نظر البعض مصدر التفاؤل الأكثر شططا بينما يتحول لدى البعض الآخر إلى موضوع للخشية.كما أنه مشتبه في كونه أمر طيع بيد القوى التجارية ,و أنه ذكوري يفضل المصالح الذكورية ,و أنه خطر على البيئة ,و أخيرا كونه مقود بصفة عمياء بحب اطلاع الباحثين ـ نقترح على أنفسنا تحويل التفكير نحو وجهة مختلفة.فالانتقادات , حتى إن كانت مقبولة,فهي لا تتعلق إلا بالتفاؤل التقدمي للأنوار.وهي لا تضع موضع تساؤل اللبس الأساسي الخاص بتصور معين للعلم بما هو " لغة الحقيقة و النجاعة".ذلك أنه في الحد الأدنى, ليس من البديهي أن المكاسب المتحققة من أجل وصف الواقع بطريقة عقلانية و موضوعية وكونية هي نفسها التي نصل إليها من خلال لغة تواصل بين فاعلين , متشاركين أو متنافسين,في إطار تركيبة لعبة اجتماعية.يبدو أن هكذا لغة تستدعي معارف من طبيعة مختلفة,آثمة لأنها نافعة, و ربما نافعة لأنها آثمة.و هي ظاهرة درسها علماء اجتماع أمريكيون تحت عبارة أصبحت معروفة الآن وهي "الإنتاج الجديد للمعرفة" و يميزونها من خلال الحضور المستمر للمناقشة و تدخل فاعلين متعددين و اختصاصات متداخلة.و يمكن أن نذهب أكثر فنقحم ,من خلال تحليل حالة,دراسة الوسيط اللساني لهذه المعارف.يبدو الوسيط مصطنعا نسبيا: خليط من لغة....... و معنى أساسي هو معنى النموذج الذي يستعمل هو نفسه العلوم كحقل من المواد الرمزية.
ـ يفترض النظر في معارف أكثر نفعا من العلم توضيح هذا المرجع المعياري.أيتمثل في ما يساعد النمو الاقتصادي و يؤدي خدمة للمؤسسات الاقتصادية؟ ليس هذا فحسب,يتمثل الرهان أساسا في تقدم اختيار مشاريع في ظل حضور مصالح متناقضة حيث يكون العلم غير قادر على تقديم  الحل.يتطلب نمو المدن و حماية المحيط,تهيئة عمرانية حيث يجب أن تفضل المصلحة الجماعية على وجهات النظر الفردية.نلتقي مجددا اليوم السؤال الفلسفي العريق الخاص ب"انتقاء المرشحين" الحاضر دوما في اليونان القديمة.وهو مشكل قدم أفلاطون نظريته في المثل كحل له.بيد أنه يطرح اليوم على صعيد أكثر تعقيدا: تحالف أفراد,وجمعيات,ولوبيات,وشبكات اقتصادية,و دوائر التمثيلات الديمقراطية,وعلى أساس مدونة علمية هائلة.
ـ إضافة إلى أن معنى المنفعة ضبابي ولا يمكن أن يكون إلا كذلك.من المهم أن نعود إليه لأنه بالأساس كان أحد أهم الأسس الإيديولوجية للوضعية الأنجلوسكسونية على إثر جان ستيوارت ميل معاصر كونت وبالتساوق مع الاقتصاد الليبرالي و فيما بعد البحث العلمي دون حدود إيتيقية( البحث الخاضع لحب المعرفة).
ـ ليسمح لي ,من أجل توضيح هذا الأمر, أن أقدم صورة حيث يؤخذ النافع تماما في معنى أولي كأداء مادي.نعلم أن مسابقة "كأس أمريكا" تضع في حالة تنافس ليس الرياضيين فقط إنما كذلك التقنيين و الصناعيين من أجل بناء المراكب الشراعية الأسرع والأسهل تحكما فيها و الأقوى.يمكن أن يكون تنظيم التحضيرات بطرق عديدة.لنتصور فريق يدعى "علم" يضم باحثين,ومهندسين,و ممولين,و بحارة قد فرضوا على أنفسهم أن لا يتواصلوا فيما بينهم إلا حول وقائع موضوعية واضحة,تجريبية أو نظرية,مستنبطة أو قابلة للقيس.في هذا الفريق يستطيع التقنيون أن يتصوروا تجهيزات ذات أداء أعلى, غير أنه يقع استبعاد هذه التصورات الذاتية عن برامج الحاسوب من أجل النجاعة , كما أن الحسابات لن تتعلق إلا بالوقائع, و يأوجون الأشكال و الكميات والوسائل.بالمقابل,فريق "علم النفس" ينشطه مختصون في علم النفس الاجتماعي,يهتمون بخلق مناخ من الثقة المتبادلة و روح الانتصار القادرة على أن تجعل المسيرين و الرياضيين يبذلون ما في وسعهم. و لنتصور أخيرا فريقا ثالثا يعتمد على المعارف العلمية المتوفرة في نفس الوقت الذي يستثمر الإعلامية المعاصرة فيقارن  داخلها بين أحلام تقنية متنوعة ,و يتم تبادل منظورات لا تخلو من بعض الحيلة,بغاية إقامة مشروع مجدد و تحديد أهداف جماعية و فردية.ندعو هذا الفريق " نمذجة".
ـ من الممكن أن لا يكون السؤال هنا: من يملك أفضل الحظوظ للفوز؟ فالأهم أن نفهم لماذا.اليوم في كأس أمريكا الفعلي كل الفرق من صنف " نمذجة",لا يهملون العلم و لا إعداد نفسي معين لكن يولون أهمية كذلك  
  
حالات واقعية لمعارف إجرائية
ـ لنترك هذه الخرافة للنظر في بعض الأمثلة الحقيقية التي تصور لنا سجلا يتحدد فيه معنى المنفعة التي نتحدث عنها.أولها يتعلق بحركة المرور.
ـ هذا أمر نادرا ما يهتم به العلماء.رغم الوقت الذي نقضيه داخل  السيارة وسط التجمعات الكبيرة, والثقل الاقتصادي لصناعة السيارات و النقل البري,وكذلك الطاقة المستهلكة والتلوث الناتج عنها يدل على أنه نشاط من الدرجة الأولى  يستحق فعلا اهتماما يضاهي الاهتمام بفقه اللغات الهندوأوروبية و نظرية حركة الصفائح.و مهما كان وجه الاهتمام فالرهانات هائلة ويستدعي طرح التساؤل عن قلة تحفيز الذكاء ـ على الأقل في شكله الجامعي الكلاسيكي ـ حول هذه المسألة.
ـ لنرى إلى الأمور بتفصيل أكثر دقة.تقاس حركة المرور إما عن طريق أجهزة لاقطة متنوعة,وإما عن طريق أسلاك تحت الرصيف,وأيضا باستخدام حلقات ممغنطة... الخ.توضع هذه الوسائل في نقاط معينة من الشبكة المرورية لإحصاء عدد وسائل النقل و تقدير سرعتها.تمثل هذه الأقيسة وقائع خام.إلا أنها غير كافية للإجابة عن الأسئلة التي تطرح لتنظيم حركة المرور داخل المدن عن طريق الأضواء و توزيع الاستثمارات الخاصة بإنشاء الطرقات حسب الحاجات المفترضة و كذلك من أجل مساعدة المهندسين المدنيين على التخطيط لأحياء جديدة.نحتاج للنظر في هذه القرارات إلى أن ننمذج حركة المرور,أي أن نوجد لها تمثيلا مركبا من تفسيرات يفهمها المهندسون المعنيون و تتضمن رموزا رياضية تكون في أغلب الأحيان مبرمجة في الحاسوب .مثل هذا التمثيل إذن تأويل للأقيسة يمكّن من إنشاء توقعات.
ـ ما هي نماذج المرور المستخدمة في أغلب الأحيان؟ يمكن ترتيب نماذج المرور بطريقة مبسطة وفق سلم يذهب من غير الدقيق إلى الأكثر دقة بتمييز أربعة مستويات:
أ ) النماذج انطلاق  ـ وصول تتمثل في تقسيم تجمع حضري إلى مناطق متجانسة نسبيا باعتماد مؤشرات الشغل و السكن و التجهيزات وتقدير الطلب على التنقل بين المنطقة أ و المنطقة ب عن طريق ضارب ج أ ب فنركب بذلك جدولا لأدفاق حركة النقل اليومية و الأسبوعية و السنوية.يستعمل المهندسون المدنيون هذا الصنف من النماذج في دراسات التهيئة كما تمثل أرضية للملفات التي تهتم بتبرير الاستثمارات الهامة بالنسبة للجماعات المحلية.
ب) النماذج الهيدرولوجية تهدف إلى إعطاء صورة أدق عن سيلان حركة المرور خلال اليوم بتمثيله  كمائع قابل للانضغاط إلى حد معين و يتميز بكثافته عند نقطة و لحظة معينتين,كما يتميز بسرعة و قانون سلوك.تمثل المحافظة على الكتلة محافظة على عدد وسائل النقل.تأخذ هذه النماذج في اعتبارها ظواهر موجة الضغط خلال الازدحام أو الانبساط عندما ينتقل ضوء المرور إلى الأخضر.كما تهتم  بالسيلان المروري المتشنج وغير المستقر الذي يتجاوز سرعة التدفق القصوى.هذه النماذج مفيدة لمصالح استغلال شبكات الطرق السريعة.
ج)النماذج الدقيقة تدقق النماذج السابقة بتمييز جزيئات المائع بعضها عن بعض.و تعتمد على نظرية شبكات طوابير الانتظار, المتطورة جدا بالنسبة للإعلامية, لكن تعمل هنا تحت فرضيات مختلفة.و مسبقا التعقيد الرياضي لهذه النماذج هائل.
د)النماذج المجهرية تهتم أكثر بالتفاصيل من خلال اعتبار السلوكات الإحصائية بالنظر إلى أصناف المستعملين. و بالاعتماد على قوانين الاحتمال, تتم نمذجة المسافات بين وسائل النقل بحسب السرعات و التجاوزات...الخ.
ـ للذهاب أبعد من ذلك,يجب أن نأخذ في اعتبارنا المعلومات التي يتلقاها السائقون أنفسهم حول حركة المرور,و أنظمة التنقل المعتمدة,والطرقات المجهزة (الطريق الذكية).هكذا نلاحظ أن واقع حركة مرور السيارات متقلب.و تجدر الإشارة أن نظام تعقيد النماذج المجهرية يصل إلى حد أن أعظم الحواسيب لا يستطيع أن يستوعب إلا بضع العشرات من التقاطعات.
ـ ,يجد مهندس المرور نفسه خلال مسار النمذجة بين المطرقة و السندان.فمن ناحية النماذج البسيطة من قبيل نماذج انطلاق ـ وصول كثيرة الأخطاء بسبب بساطتها ذاتها لكنها الأيسر تحديدا لأنها تحتاج إلى أقيسة نسبيا قليلة.وفي المقابل النماذج المجهرية تزعم إدراك الظواهر عن كثب أكثر ما يمكن لكنها تستخدم قوانين احتمال مجهولة و متغيرات أخرى لا تتوفر لنا وسائل معرفتها.سوف يكون النموذج الأقل رداءة دائما نموذجا انتقاليا: ليس مبسطا جدا و ليس مكتملا إلى حد كبير.
 في كل الحالات, ليس هناك بالتأكيد نموذجا جيدا في ذاته, و قبل أن يشرع المهندس في نمذجة ما,لابد أن يتساءل عمن سيستفيد من النموذج.فالتمشي لن يكون هو نفسه بالنسبة لكل الممولين:سيختلف من ممول إلى آخر, قد تكون منظمة عمرانية أو إدارة نقل جماعي أو مصلحة تصرف في أضواء المرور أو جمعية للدفاع ضد مشروع ضار.فقدرتها على القيام بأقيسة ستوجه إنشاء المعارف و دقتها.على أساس ذلك نفهم علة عزوف العلم الكبير المهتم بالكونية و الموضوعية عن ميدان مثل حركة المرور إذ هو تقريبا عاجز عن دراسته.
يصور لنا كذلك مثالنا الثاني , هندسة المواد, الدور الجزئي الذي يقوم به العلم في إنتاج معارف معينة.يتعلق الأمر بالمادة لذلك تستدعى الفيزياء و الكيمياء و فروعيهما,لكن سنرى أن الرياضيات لا تستعمل فقط للتعبير الرمزي عن الواقعي من خلال ذلكما العلمين و فرعيهما.
ترتبط قطاعات النشاط الاقتصادي بالمواد المتوفرة وتلتمس من البحث أن يحسن الأداء و يقلص الكلفة أو إرضاء أفضل لمطالب المحيط العاجلة.تمثل هندسة المواد صورة مكتملة عن الحركة المزدوجة التي يسير فيها التجديد : البحث من جهة و الطلب من جهة أخرى.و يعبر اليوم الطلب عن نفسه من خلال اقتصاد السوق.
من جهة,تقترح المخابر مواد جديدة.وهي قريبة من مؤسسات التعليم العالي و تمتلك المعرفة النظرية.كما توفر المخابر بواسطة التأثيرات الفيزيائية و التركيبات الكيميائية أو التجهيزات الجديدة كذلك,  موادا ذات خصائص غير عادية.من جهة أخرى, تنتظر الصناعة, معتمدة على السوق, حلا لمشاكل معلقة.يقول الأمريكيون:"العلم يدفع و السوق يسحب",و بصفة أدق تطرح التقنية مشاكل في انتظار حلول و يوفر العلم حلولا في انتظار مشاكل.
من الواضح أن ظهور مادة جديدة ذات خاصيات جديدة كتلك التي يستطيع العلم إنتاجها,مثل هلام السيليكا,سوف تغير لعبة" أسئلة-أجوبة" في التطور التقني.كما أن هذه الحركة المزدوجة هي جدلية ضرورية للتجديد. و تستغرق وقتا. يمكن أن تترك بعض المواد على رفوف المخابر أكثر من عشر سنين قبل أن تساهم في مسار تنمية صناعية.بقيت البلورات السائلة طويلا مجرد فضول قبل أن نصنع منها محارير لونية وأجهزة عرض الساعات و فيما بعد أجهزة عرض الحواسيب.

  في هذه الظروف,من المهم معرفة إن كان من الممكن إضفاء قيمة أوسع على منتجات البحث و التخفيف منالمشاكل التي تطرحها التقنية.
وسيلة الحوار هي النمذجة.تضع المخابر نماذج للمواد المدروسة بالإضافة إلى التجارب التي هي بطبيعتها مكلفة و محدودة باختيار درجات الحرارة و الكثافة وما يتعلق بالأجهزة من خاصيات.النماذج ببساطة كتابات إعلامية بتمثيلات رياضية لخاصيات أجسام مطابقة للقوانين الفيزيائية,مهمتها تبسيط في  حالات معينة بعض المظاهر الثانوية من أجل أن تجرى حلول المعادلات و الخوارزميات بسرعة فائقة حتى يتسنى لنا ملاحظة ردود أفعال المواد عندما نعرضها إلى تأثيرات معينة.تتمثل فائدة مثل هذا النموذج في أنه,منذ الآن يمكن القيام بتنويع متغيرات الجسم المدروس,ونسب الأخلاط, و درجة تغير حرارة المادة عندما تتحول من حالة إلى أخرى,و الثوابت العازلة,و العلاقات الريولوجية و لم لا الثوابت الفيزيائية مثل الثابت الإلكتروستاتيكي() و ثابت بلانك().هكذا نجد أنفسنا في الخيال المحض. لكن الحوار يمكن أن يحدث.يستطيع الصناعي أن يعين مسالك من بين هذه الأجسام الافتراضية التي تكون بعض خاصياتها مضخمة ليسبق الطلب.لدينا مسلك نحو موضوع كاريكاتوري بالتأكيد لكنه قابل للتحسين و التغيير. يستطيع الباحثون و المؤسسات أن يتصوروا مراحل للبحث,ويطلبوا مساعدات عمومية لتحقيق الأمر,و ينشأ عن ذلك تفاهم متبادل يمكن كل طرف من إدراك أفضل للعوائق التي تفرض نفسها على الآخر.
تبين هندسة المواد أن لغة العلم بما تفرضه من إلزام يتعلق بالموضوعية و الصرامة و التطابق مع التجربة,تعتبر متخشبة و دقيقة قياسا إلى لغة الحوار الممكن.يجب أن يقبل العالم, نفسيا, إمكانية خيانة الحقيقة عن طريق أنصاف الأكاذيب أنصاف الحقائق التي تمثلها النماذج حتى تترك منطقة من اللبس المجال للبواعث و يظهر المعنى.إنني أستبعد أن تكون النمذجة تجاوزا لكل العوائق,كما لا يمكن استبعاد أنها في بعض الحالات يمكن أن تضعنا في اتجاه إهدار الوقت في معالجة مشاكل زائفة.و فعلا,هذا أمر يجب دراسته,ففي حين أن التأكيدات العلمية تفترض فقط سجل الصلاحية, تستدعي النمذجة سواء كانت متعثرة أو ماهرة,ثقيلة أو تخطيطية,واضحة أو غامضة,فتح حقل لسانيات جديد.
أخيرا,لنستحضر مشكلا بيئيا دون الخوض في التفاصيل لأن حدود التمشي العلمي الصارم في هذا الميدان سبق أن بينه العديد من الكتاب.لنأخذ مثالا هاما و هو التصرف في حوض نهر.الرهانات عديدة ري,طاقة كهرومائية,وقاية من الفيضانات, نقل,محافظة على الثروة الحيوانية و النباتية.المتدخلون:منتخبون,شركة كهرباء,فلاحون, مصالح تقنية جهوية,جمعيات محلية كلهم يتبعون أنظمة منطقية مختلفة وغير قابلة للاختزال.لا يتعلق الأمر,يقينا,بتقسيمها عن طريق العلم.ذلك أن الأمر ليس  يهم العلم.فالهدف لا يتمثل في توزيع الأدوار,وفي هذا السياق ليس هناك من حقيقة تفرض نفسها. لابد من القطع مع حروب الخنادق الإيديولوجية,تجاوز لغة الدعاية الانتخابية,و الأخذ في الاعتبار الوقائع المحسوبة,و محاولة تجنب الحماقات الكبيرة.هناك نماذج تتطلب الإنجاز منها الاقتصادي و الهيدرولوجي و البيئي,  تكون بسيطة في البداية , ثم أكثر دقة فيما بعد.و هي موضوعات اتصال خاصة بالوضعيات المعقدة.قد لا نتوصل بالضرورة إلى قرار لكن سوف نأخذ في الاعتبار عناصر أكثر خفاء و أكثر دقة مما لو تركنا الأمر للقوى الموجودة تعمل انطلاقا من المعارف العلمية المعتبرة غير قابلة للرجوع فيها.

هكذا,لا يتعلق الأمر هنا كما تبين الأمثلة بدراسة معنى النموذج الذي نعرض له في الفيزياء (نموذج بوهر, نموذج جاهز) وفي الاقتصاد (نماذج التوازن) وفي الإحصاء (نموذج القوة)الخ.إنما يتعلق بالنموذج في النمذجة, و نعني بهذه العبارة أن ينشئ المهندس أو الخبير أو مكتب دراسات تمثيلا مهمته توضيح و تهيئة أرضية لاتخاذ قرار من قبل فاعل معين أو عدة  فاعلين في وضعية حوار.بهذا المعنى,يمكن لنا الآن أن نتفحص اللغات المستعملة و استخراج بعض المشكلات الفلسفية.

النموذج كسرد باستعمال مفردات العلم

حمل نمو الإعلامية الهائل في النصف الثاني من القرن العشرين تغيرات اجتماعية أعمق من تلك التي يتكرر ذكرها حول سهولة الاتصال و وظيفة الصورة و سلطة وسائل الإعلام.فقد غيرت العلاقات بين العلم و حياة المدينة ,و طبيعة مهنة المهندس.فالمهندس ليس هو الذي يعرف كما كان في القرن التاسع عشر,أو هو الذي يحارب اعتمادا على العلم الخرافة و يعقلن و يؤوج بالنظر إلى حصيلة المادة و الطاقة. ليس هو في وضعية تطبيق.فمجال تدخله الاجتماعي له خاصيات و خصوصيات يجب أن يأخذها في الاعتبار و يتحمل مسؤوليته.ولا يتمثل فعله في النزول من المعرفة النظرية إلى واقع خاضع لسلطته,بل يتمثل في الارتقاء و إظهار تركيبة  أكثر ثراء وتعقيدا و حياة من مجرد تطبيق قواعد عامة.إنه يوجد في وضعية التزام.و موقعه أكثر وضوحا,فليس هو عالم من الدرجة الثانية,إنه منشئ علل للفعل و للقرار.و بالتالي, النماذج التي ينشئها تمثيلات منحازة لجهة معينة بالمعنى الإيجابي للكلمة, يعني اختيار إمكانية من ضمن إمكانيات التعبير المتعددة.فلننظر في الأمر عن كثب.

اللغات نصف الاصطناعية:

النمذجات مصورنة جزئيا,وهي خاصيتها الرئيسية.يجب أن تكون مفهومة , لهذا تتركب من لغة عادية و رموز ذات معنى.
تتأتى الرموز من العلوم التي وقع ترييضها (الفيزياء , الميكانيكا , الكيمياء , والعلوم الفرعية , الآلية , تحليل الإشارات) و من العلوم الإنسانية التي تستخدم الرياضيات (الاقتصاد , وبصفة أقل علم الاجتماع و علم النفس) و من علوم الحياة و البيئة.مع العلم أن الإحصاء يضع روابط بين وضعيات جد متنوعة و تمثيلات مشفرة و رمزية.

غير أن اللوحة تبقى غير تامة عندما تحدثنا عن اللغة العادية من ناحية , و العلوم من ناحية أخرى.لا بد من أن نترك مجالا فسيحا لما نسميه علوم المهندس التي تتركب من معارف منظمة جزئيا تضم حقولا معرفية هائلة.نذكر منها هندسة الصوت,هندسة المعادن,الهندسة الكهربائية, الهندسة الحرارية, هندسة المنشآت المائية (المنشآت المائية) و علم المياه ( ما يتعلق بسيلان المياه و خصائصها). النقل ,علم الاحتكاك ( الاحتكاك) الخ.وهي ميادين مهارات مهنية, لها معجمها و استعمالاتها و تاريخها.
تمثل بعض علوم المهندس قيمة فلسفية مميزة من جهة بنيتها الاستنتاجية الصارمة التي نكون مدونة متناسقة.يمكن تسميتها عليمات.تمثل بصريات غوس التي تأخذ في اعتبارها تكون الصور عبر العدسات طالما أن الأشعة الضوئية باقية بالقرب من محور دوران النسق مثالا جيدا جدا. الديناميكا الحرارية للغازات المثالية, نظرية التموجات الخطية لآيري, اقتصاد التنافس المثالي,أمثلة أخرى وهي كثيرة. هندسة صلابة المواد عليم نموذجي.فهي لا تشير إلى علم صلابة المواد الذي يخص الفيزياء و يضم ميكانيكا المتصل و ميكانيكا المنكسر,إنما هي مقاربة مبسطة له أنشأها مهندسون أكفاء في شكل  واضح كفاية حتى تدرّس بسهولة و تفيد المهندس.إنها تعتبر أن البنى يمكن أن تتفكك إلى عناصر تتناقل  القوى عن طريق روابط و تتشكل بحسب قوانين بسيطة يتم حسابها بالاعتماد على فرضيات مبسطة ( مبدأ سان فرنان,الخ.).هل أن هندسة المواد قابلة للدحض بعناه لدى بوبر أم يجب وضعها في الخانة التي يضع فيها بوبر نفسه الماركسية و التحليل النفسي؟ إنها غير قابلة للدحض,إنها خاطئة تماما.إنها جدّ صالحة لكنها تستعمل دائما في الحالة التي تكون فيها خاطئة.وهي علاوة على ذلك ضرورية عندما يتعلق الأمر بتخطيط أولي لمشروع ما قبل القيام بتحقيقات و تعديلات عن طريق حسابات معقدة و دقيقة خاصة بميكانيكا المتصل.
لنذكر كذلك عليم آخر, سهل جدا مثلما هو دائما, و لكنه أقرب إلى الرياضيات لذلك يستخدم غالبا في  ميادين جد مختلفة.يتعلق الأمر بتبسيط حساب الاحتمالات الذي يمكن تسميته العالم الغوسي.يعتبر هذا العليم أن كل قوانين الاحتمالات قوانين عادية( قوانين غوس) وتقتصر على مشاكل خطية.و على الرغم من أن هذه التحديدات يمكن أن تبدو ما قبليا صارمة جدا , فإنها تمتد على مجموعة كبيرة من الوضعيات من خلال تكبير غير محدود للأبعاد.هكذا يضم العالم الغوسي الحركة البراونية و نظرية  تصفية الإشارات الثابتة لنوربرت فاينر.مفهوم الاستقلال حاضر بالإضافة إلى القانون الشرطي.يرتبط هذا العليم بالمناهج الإحصائية من خلال قاعدة الحد المركزي و نظرية أقل التربيعات عن طريق مقدر أكبر الاحتمالات.يعتبر الكثير من المهندسين أن قانونا احتماليا مجهولا هو غوسيّ طالما أنه لم يثبت عكس ذلك.هذه مقاربة أولى, و يمكن أن تكون هناك مقاربات أخرى.

تضم علوم المهندس عبارات ليست متداولة و ليست علمية وليس لها خاصيات تقنية.