السبت، 25 ديسمبر 2010

البنائية و التربية

البنائية والتربية
بحث في الأصول الفلسفية للتربية

مرام حامد الحازمي




أولاً / الجذور الفلسفية للبنائية
البنائية من المذاهب الفكرية التي برزت في العصر الحديث ، وشكلت ثورة في الدراسات الإنسانية والاجتماعية ، وطرق التعامل مع المعرفة ، امتد أثرها بشكل بارز إلى ميدان التربية لتصبح منهجاً ونشاطاً تربوياً يمارس من قبل الطالب بشكل خاص للوصول إلى المعرفة .
البنية والبنائية :
تشتق كلمة البنائية Constructivism من البناء Construction أو البنية  Structure، والتي هي مشتقة من الأصل اللاتيني Sturere بمعنى الطريقة التي يقام بها مبنى ما (فضل،1985،ص175) .
وفي اللغة العربية تعني كلمة بنية ما هو أصيل وجوهري وثابت لا يتبدل بتبدل الأوضاع والكيفيات (ناصر،2001،ص420) .
ويعرف فضل (1985،ص176) البنية بأنها " كل مكون من ظواهر متماسكة ، يتوقف كل منها على ما عداه ، ولا يمكنه أن يكون هو إلا بفضل علاقته بما عداه " .
وبناءً على ذلك يرى البنائيون أن كل ما في الوجود ( بما في ذلك الإنسان ) هو عبارة عن بناء متكامل يضم عدة أبنية جزئية بينها علاقات محددة ، وهذه الأبنية الجزئية لا قيمة لها في حد ذاتها بل قيمتها في العلاقة التي تربطها بعضها ببعض والتي تجمعها في ترتيب يؤلف نظاماً محدداً يعطي للبناء الكلي قيمته ووظيفته (ناصر،2001) .
وقد اختلفت النظرة إلى مفهوم البنائية ، فهناك من يرى أن البنائية " مذهب فلسفي " يسعى إلى الشمول ، ويستهدف تقديم تفسير موحد لمجموعة كبيرة من المشكلات ، ويضم مجالات معرفية متعددة في إطار نظرة واحدة إلى العالم وإلى طبيعة الأشياء (زكريا،1980) . ويرى زكريا نفسه (1980،ص9) أن البنائية " نظرية في العلم تؤكد أهمية النموذج أو البناء في كل معرفة علمية ، وتجعل للعلاقات الداخلية والنسق الباطن قيمة كبرى في اكتساب أي علم " ، بينما يؤكد ناصر (2001،ص422) على أن البنائية هي " منهج تحليلي تركيبي يعمد إلى تحليل كل بناء إلى جزئياته التي يتكون منها للكشف عن العلاقات الموضوعية التي تربطها بعضها ببعض ، ثم إعادة تركيبها في بناء كلي جديد يكون أرقى من البناء السابق وأكثر تقدماً " ، فيما يرى فضل (1985،ص205) أن البنائية " نشاط إنساني يتضمن تتابع منتظم لعدد من العمليات العقلية الدقيقة ، فهو يهدف إلى إعادة تكوين " الشيء " بطريقة تبرز قوانين قيامه بوظائفه " ، والإنسان البنائي يتناول الواقع ويفككه ويحلله ثم يقوم بتركيبه مرة أخرى .
وأدى اختلاف النظرة لمفهوم البنائية إلى تعدد استخداماتها وتطبيقاتها في العلوم المختلفة كل بما يناسبه ، إلا أن هناك إطاراً عاماً يتفق عليه جميع البنائيين ويعتبر نقطة الانطلاق في الدراسات البنائية المختلفة ، وهو النسق الكلي للظواهر المختلفة ، والتركيز على العلاقات التي تربط أجزاء هذه الظواهر .
نشأة البنائية :
ظهرت البنائية " كمنهج " للتفكير منذ زمن بعيد ، عندما أحدث ديكارت (1596-1650) نقلة في دراسة العلوم الطبيعية بتطبيق النموذج الرياضي على الظواهر الطبيعية ، فيعد ذلك العلم الحديث بنائياً لأنه استهدف الاهتداء إلى " البناء " الكامن وراء الظواهر الطبيعية والتعبير عن هذا البناء بلغة رياضية (زكريا،1980) ، كما تحدث الفيلسوف الإيطالي جيامبتسا فيكو (1668-1744) عن بناء المعرفة حين عبر عن فكرة أن عقل الإنسان يبني المعرفة بقوله : " إن الإله يعرف العالم لأنه هو الذي خلقه ، وما يستطيع الكائن البشري أن يعرفه هو ما صنعه بنفسه فقط " فكانت هذه العبارة أول بيان رسمي للبنائية ، ثم كتب إيمانويل كانط (1724-1804) في كتابه " نقد العقل الخالص " يقول : يستطيع العقل الإنساني أن يفهم فقط ما أنتجه هو نفسه وفقاً لخططه الخاصة به " (فون جلاسرسفيلد،2001،ص198) وهكذا يظهر أن البنائية باعتبارها " مذهباً " فلسفياً ظهرت عند كانط ، فالبنائية - مثل فلسفة كانط – تبحث عن الأساس الشامل اللازماني الذي ترتكز عليه مظاهر الحياة ، وتُعمل العقل في سبيل ذلك ، وتثق به أكثر من الحواس . فهي – مثل فلسفة كانط – تترفع عن النظرة التجريبية ، وتؤكد أن تقدم المعرفة لا يتم عن طريق وقائع تجريبية ، بقدر ما يتم عن طريق إعادة النظر في بناء ظواهر موجودة بالفعل ولكنها تتخذ مظهراً جديداً في كل عصر . والفرق بين فلسفة كانط والبنائية أن كانط كان يركز على العلوم الرياضية والطبيعية ، بينما يركز البنائيون على العلوم الإنسانية والاجتماعية (زكريا،1980) .
لاقت البنائية اهتماماً كبيراً في النصف الثاني من القرن الماضي ، حيث ظهرت كردة فعل على الوجودية التي انبعثت من جوف الحروب العالمية لتبحث مشكلة الحرية وعلاقتها بالمسئولية والقلق والتمرد ، وتصل إلى عزلة الإنسان وانفصامه عن واقعه والعالم الذي يعيش فيه وشعوره بالإحباط والضياع والعبثية من جراء الحروب (الرويلي والبازعي،1995) ، أما وقد تغيرت ظروف أوروبا وعادت إلى السعي والبناء والتعمير شعر المجتمع الأوروبي بالحاجة إلى اتجاهات فكرية جديدة مفتوحة غير مغلقة،مرنة غير جامدة،تساعد على البناء وتساير التقدمية (ناصر،2001) فظهرت الأصوات التي تنادي بالنظام الكلي المتكامل والمتناسق الذي يوحد العلوم ويربطها بعضها ببعض . من هنا جاءت البنائية كمنهجية شاملة توحد جميع العلوم في نظام إيماني جديد من شانه أن يفسر الظواهر الإنسانية كلها بشكل علمي ، وارتكزت مرتكزاً معرفياً يؤكد على كون العالم حقيقة واقعة يمكن إدراكها ، ولذا توجهت البنائية توجهاً شمولياً إدماجياً ينظر للعالم بأكمله بما فيه الإنسان(الرويلي والبازعي،1995).
وقد كان علم اللغة الأرض الخصبة التي نما فيها المنهج البنائي وترعرع ، حيث درس علماء اللغة  وعلى رأسهم العالم السويسري " فرديناند دي سوسير " ، عناصر اللغة والسمات المميزة لعلاقاتها بوصفها أنساقاً لا علاقة لها بالعالم الذي تعبر عنه . ونجاح اللغويات كعلم إنساني في بلوغ مرتبة العلم المنضبط كان عاملاً مشجعاً للباحثين في الميادين الإنسانية والاجتماعية الأخرى على الاقتداء بهذا العلم الناجح في منهجه . وهكذا انتقلت البنائية من اللغويات إلى الانثربولوجيا على يد العالم البنائي " كلود ليفي ستراوش " الذي نقل علم الانثربولوجيا إلى ميدان العلوم المنضبطة (زكريا،1980) .
ثم تتابع انتقال البنائية إلى ميادين وعلوم أخرى ، حيث كان " جاك لاكان " رائد البنائية في التحليل النفسي ، و " رولان بارت " في النقد الأدبي ، و " ميشيل فوكو " في الفلسفة ، وأخيراً " جان بياجيه " من خلال نظريته البنائية في المعرفة ، والتي كان لها الدور الأكبر في انتقال البنائية إلى ميدان التربية .
ثانياً / البنائية وعلاقتها بالتربية
تعتبر التربية من أحدث الميادين التي طرقتها البنائية بقوة ، وظهرت البنائية في التربية مرتبطة ببناء المعرفة ( أو بنية المعرفة ) وبنية المفاهيم ، ولذا عرفت بالبنائية المعرفية أو البنائية المفاهيمية في التربية ، وظهر ما يسمى بالمناهج البنائية ونظريات التعليم البنائية والطرق البنائية في التدريس والمعلم البنائي والطالب البنائي .
ويعد جان بياجيه أول من طرق باب التربية بنظريته البنائية المعرفية ، ونظراً للدور الكبير الذي قام به بياجيه في هذا المجال ، فإن ذلك يستلزم إلقاء الضوء على نظرية بياجيه باعتبارها أساس البنائية في التربية .
جان بياجيه والبنائية :
وُلد العالم السويسري جان بياجيه عام 1896م وعمل فيلسوفاً وعالم أحياء وعالم منطق وعالم نفس وتربوياً ، وقدم الكثير من الإسهامات في تلك المجالات ، وتوفي عام 1980م . من أبرز إنجازاته نظرية الارتقاء المعرفي لدى الطفل ، والتي لا زالت تطبيقاتها تخدم مختلف المجالات وعلى رأسها التربية (واردزورث،1991) . وبالرغم من رفض بياجيه القوي لاعتبار نفسه مربياً ، إلا أنه ظل مهتماً طوال حياته اهتماماً كبيراً بالتربية ، حيث قضى سنوات عديدة مديراً للمكتب الدولي للتربية ، كما كان ينشر بحوثاً تربوية بانتظام بداية من العشرينات وحتى وفاته مطلع الثمانينات (دوكريه،2001،ص181) .
وضع بياجيه نظرية متكاملة ومتفردة حول النمو المعرفي لدى الطفل ، وتقوم هذه النظرية على عنصرين أساسيين :
1- الحتمية المنطقية ، وتختص بافتراضات بياجيه عن العمليات المنطقية وتصنيف مراحل النمو العقلي للطفل .
2- البنائية ، وتختص بالنمو المعرفي أي ما وضحه بياجيه بمبدأ بنائية المعرفة " أن الفرد هو الذي يبني معرفته " (زيتون،2000) .
فقد دعا بياجيه إلى ربط بناء المعرفة بالنمو المعرفي للإنسان منذ طفولته ، حيث يؤكد أن الطفل يولد ولديه اتجاهان فطريان هما : التنظيم والتكيف . والنمو المعرفي ما هو إلا تغير في التراكيب العقلية والبنيات المعرفية الموجودة (سركز وخليل،1996) . ويتضمن ذلك عمليتين رئيسيتين :
1) التمثل : وهو عملية عقلية مسئولة عن استقبال المعلومات ووضعها في تراكيب معرفية موجودة عند الفرد .
2) المواءمة : وهي عملية عقلية مسئولة عن تعديل هذه التراكيب أو الأبنية المعرفية لتناسب ما يستجد من مثيرات .
والتمثيل والمواءمة عمليتان مكملتان لبعضهما وينتج عنهما تصحيح الأبنية المعرفية وإثراؤها وجعلها أكثر قدرة على التعميم وتكوين المفاهيم (زيتون وزيتون،1992) .
ويميز بياجيه بين ثلاثة أنماط من المناهج التعليمية : المناهج اللفظية التقليدية ، والمناهج النشطة ، والمناهج الحدسية . ويرى أن المنهج النشط هو أفضلها باعتباره متسقاً مع نظريته في توجيه نشاط المتعلم الخاص للوصول إلى الحقائق بنفسه والحصول على معرفته وتكوين بنياته بذاته ، إذ أن هدف التربية عند بياجيه هو تكوين الذكاء وليس تأسيس الذاكرة .
أما عن طرائق التعليم فإن بياجيه ينتقد الطرائق التقليدية للمعارف المهيكلة سابقاً ، من خلال ذكاء الآباء والمعلمين أو من خلال لغتهم مؤكداً أن المفاهيم لا تدرك بالاستماع السلبي بل تبنى بالفعل والعمل ، فالفعل يكوّن صوراً ذهنية من شأنها تشكيل بنى تنظيمية لأفعال جديدة ، والسبيل إلى ذلك هو التدريس من خلال النشاط البنائي للمتعلم الذي يتيح أمامه فرص الاكتشاف المعرفي لنمو وتعديل بنياته (سركز وخليل،1996) ، إلا أن ذلك لا يلغي دور المناهج الأخرى في اكتساب المعرفة .
وبذلك تصبح البنائية عند بياجيه منهجاً للتطبيق وليست مذهباً فلسفياً ، وهي منهج مفتوح على غيره من المناهج العلمية : تتداخل معها ، وتتصل بها لتعمل معاً على إيجاد الحلول المناسبة للمشكلات المعرفية (بياجيه،1985) .
التعلم البنائي :
حظيت البنائية بالاهتمام الكبير في السنوات الأخيرة ، فهي نظرية عن المعرفة والتعلم ، إذ تقدم تصوراً عن المعرفة وعن الطريقة التي يحدث بها العلم . وهي ترى أن المعرفة مؤقتة نامية ، وغير موضوعية وتبنى داخلياً وتتأثر بالثقافة والمجتمع . فترى أن المتعلم يبني بنفسه فهمه الخاص عن العالم من حوله بدلاً من أخذ هذا الفهم عن الآخرين ، فالبنائية تضع المتعلم في مركز عملية التعلم (العبد الكريم،2003) .
وتقدم البنائية بما تحويه من فلسفة تربوية تعلماً أفضل ، فالفرد يبني معرفته بنفسه من خلال مروره بخبرات كثيرة تؤدي إلى بناء المعرفة الذاتية في عقله . وبهذا تصبح المعلومات المتوفرة في المصادر المختلفة كالمواد الخام لا يستفيد منها الإنسان إلا بعد قيامه بعمليات معالجة لها . فبعد وصول المعلومة للطالب يبدأ بالتفكير فيها وتصنيفها في عقله وتبويبها وربطها مع غيرها . وهكذا إلى أن يصبح ما تعلمه ذا معنى ومغزى ، وهنا يمكن القول بأن الطالب تعلم شيئاً ((//tarbia1.tripod.com.
أما المعلم ، فيصبح دوره هو التوجيه والإرشاد ، وطرح قضايا عامة دون التدخل في جزئياتها ، بل على الطالب تحليل تلك القضية والتعرف على جزئياتها ومعطياتها ، ومن ثم استنتاج العلاقات وتركيب بنية معرفية قائمة بذاتها . فالمعلم يجعل المفاهيم الموجودة عند الطالب واضحة ، كما أنه ينظم بيئة التعلم ، ويوفر أدوات التعلم ، ويشارك في إدارة التعلم وتقويمه ، وهو مصدر احتياطي للمعلومات إذا لزم الأمر (ناصر،2001) .
ويضع فون جلاسرسفيلد (2001،ص206) – وهو أحد أشهر منظري البنائية المعاصرين – مبادئ أساسية للتعلم البنائي ، منها :
1- يجب أن لا يبدأ التدريس بعرض حقائق مقدسة ، بل لابد من إتاحة الفرصة ليقوم الطالب بالتفكير ولابد أن يقتنع المعلم بأن الطالب قادر على التفكير .
2- لا يكفي أن يكون الطلاب على ألفة بمحتوى المنهج ، بل لابد أن يكون لديهم أيضاً مدى واسع من المواقف التعليمية متضمنةً المفاهيم التي يمكن بناؤها .
3- لا يصل الطالب إلى الحل صدفة ، بل يعمل للوصول إليه ، ولا ينبغي إخباره بأن هناك " خطأ " في هذا العمل ، بل لابد من الاعتراف بجهده ، وإهمال ذلك سوف يطفئ أي دافعية لدى المتعلم للتعلم .
4- تُكوِّن المفاهيم معانٍ مختلفة لدى الطلاب ، ولكي يعاد بناء المفاهيم بشكل سليم يجب على المعلم أن يكون ملماً بنظريات وأفكار الطلاب ، حتى يمكنه التأثير على تفكيرهم ، ومنع بناء أفكار خاطئة .
5- إن بناء المفاهيم يقوم على التفكير ، وعلى المعلم أن يكون لديه وسائل تحفيز لهذا التفكير ، وأيسر السبل لذلك هو ترك الطلاب يتحدثون عما يفكرون به . فمن خلال الحوار تبرز الفجوات والتناقضات في سلسلة الأفكار ، كما يصبح ذلك عادة لدى الطالب ، وأي فرصة تتاح أمامه لحل مشكلة قد تتحول إلى حوار مع الذات .
المناهج البنائية :
تركز المناهج البنائية على المفاهيم أو البنية الأساسية للمواد الدراسية ، فلكل مادة مجموعة مفاهيم أساسية ، والمهم هو تحديد تلك المفاهيم التي تُكوِّن البناء الأساسي لكل نظام معرفي ، وتوصيلها بالطريقة المناسبة مع مطالب النمو وطبيعة المرحلة التعليمية . وتعتبر الرياضيات الحديثة مثالاً واضحاً على ذلك ، فهي تدمج مواضيع رياضية مختلفة كانت في الماضي وحدات مستقلة ، بحيث تصبح المفاهيم الرياضية أكثر شمولاً من القديمة ، فهي دراسة لبنى رياضية عامة ، وهي من ناحية أخرى تتجه نحو التجريد ، وبالتجريد والتعميم تمكنت الرياضيات من تلبية احتياجات الكثير من الفروع العلمية الأخرى ، بل تدخلت بشكل صريح في مختلف العلوم : الطبيعية والإنسانية والاجتماعية (حسان،1983) .
ومن رواد المناهج البنائية " برونر " الذي وضع نظرية للتعليم قائمة على بنية المعرفة ، ويقصد بهذه البنية مجموعة المبادئ والمفاهيم والعموميات والنظريات الخاصة بأي فرع علمي ، ثم طرق وأساليب البحث التي تؤدي إلى التوصل لهذه الأساسيات المعرفية . فالبنية المعرفية عند برونر تتكون من مادة معرفية وأساليب البحث الخاصة بها ، إذ لابد من التسلسل المنظم لعرض المادة التعليمية من أجل التعلم . وبناءً على ذلك وضع برونر " المنهج الحلزوني Spiral Curriculum " الذي يؤكد تقديم بنية المادة الدراسية إلى المتعلم في مراحل تعليمه المختلفة بصورة متكررة ومتدرجة في التعقيد ، وفق ما يسمح به نموه العقلي في مراحله المختلفة ، فينتج في النهاية صورة واضحة متكاملة لبنية العلم لدى المتعلم . فمثلاً : يمكن تدريس مفهوم " التأكسد " في العلوم لطلاب المرحلة الابتدائية في صورة " صدأ الأجسام " ، ويدرس المفهوم نفسه لطلاب المرحلة الإعدادية في صورة " اتحاد المادة بالأكسجين " ، ويدرس لطلاب المرحلة الثانوية في صورة " فقد أو اكتساب إلكترونات " ، وفي المرحلة الجامعية يتدرج الطلاب في دراسة درجة تأكسد المادة (سركز وخليل،1996) .
خصائص المنهج البنائي :
يتميز المنهج البنائي بعدة خصائص جعلت منه منهجاً مثيراً فريداً يمكن تطبيقه على أي مجال من مجالات العلوم المختلفة . ومن أهم هذه الخصائص (فضل،1985 وبغورة،2002) : 
1- أسبقية الكل على الأجزاء :
فالمنهج البنائي يتميز بالنظرة الكلية إلى الموضوع ، وهو بذلك يتبع مدرسة القشطالت التي تنظر إلى الكل قبل الجزء . إلا أنه يتميز عنها بأنه يبحث في علاقات الأجزاء بعضها ببعض ، بعكس القشطالت التي تكتفي بمعرفة الكل وأجزائه بغض النظر عن العلاقات التي تربط تلك الأجزاء .
2- منهج تحليلي تركيبي :
المنهج البنائي يقوم على تحليل الظاهرة إلى أجزائها المكونة لمعرفة العلاقات بين هذه الأجزاء ومن ثم إعادة تركيبها من جديد في بناء أشد قوة وأكثر رقياً . فهو بذلك يستخدم أعلى مستويات المعرفة والأداء العقلي ، ويصل إلى المستوى " الإبداعي " في التعلم كما حدده " بلوم " في تصنيفه للمجال المعرفي .
3- يتخذ قاعدة المناسبة :
ينظر المنهج البنائي إلى الموضوع أو المفهوم في سياقه الذي جاء فيه ، بغض النظر عما يحيط به من ظروف أخرى ، فهو بذلك يعترف بالتخصص . وتعني قاعدة المناسبة وجهة النظر التي يدرس منها الموضوع ، فالظاهرة نفسها يتم دراستها من وجهة فيزيائية ورياضية وحيوية واجتماعية ولغوية متخصصة ، فهو بذلك يوحد دراسة الموضوع في العلوم المختلفة ، دون تداخل واضح لتلك العلوم .
4- يعتمد على القيم الخلافية :
يقابل المنهج البنائي بين الظواهر أو المفاهيم المختلفة وينظمها – لا بالرغم من اختلافها – ولكن بفضل هذا الاختلاف نفسه . " ويؤكد برونر على أن المفاهيم الجديدة يكون لها معنى أفضل في ذهن المتعلم حينما تتباين وتختلف مع مفاهيم أخرى " (سركز وخليل،1996،ص80) . وهكذا يعترف المنهج البنائي بالفوارق بين المواضيع والمفاهيم ومعرفة العلاقة بينها ، وينظمها حول محور بحيث تبدو كتنويعات مختلفة ناجمة عن نوع من التوافق والائتلاف .
5- يمتد عمقاً لا عرضاً :
يهتم المنهج البنائي بالدراسة التفصيلية لحالات ومواضيع معمقة محددة ، فمن غير المجدي دراسة حالات كثرة بشكل سطحي ، فهذا لا يؤدي إلى أي نتائج ذات قيمة ، والأفضل هو دراسة حالات قليلة بتحليل عميق ، والمهم هو اختيار مواضيع تسمح بصياغة أحكام حاسمة لأنها تمثل غيرها تمثيلاً صحيحاً . فهو بذلك منهج يعتمد على الاستنتاج والاستنباط أكثر من اعتماده على الاستقراء .
6- المنهج البنائي منهج علمي :
على الرغم من اهتمام المنهج البنائي على العقل قبل الحواس ، ونظرته الدونية للمنهج التجريبي ، إلا أن الخصائص السابقة تؤكد على أن المنهج البنائي يقوم على خطوات ذات طابع تجريبي ، كما يقوم على مبادئ ذات طبيعة عقلية ، وهذه الطبيعة الازدواجية جعلت منه " منهجاً علمياً " متميزاً قائماً بذاته ، يشكل معلماً من معالم تطور المناهج العلمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية .
مشكلات البنائية في التربية :
يعاني المنهج البنائي من صعوبات في التطبيق ، ومن تلك الصعوبات (زيتون وزيتون،1992) :
1- ليست كل المعرفة يمكن بناؤها بواسطة الطلاب :
هناك أنواع من المعرفة – خاصة بعض أنواع المعرفة التقريرية – يصعب أو يستحيل تنميتها من خلال المنهج البنائي مثل : كتلة الإلكترون ، وسرعة الضوء . مثل هذه المعارف ينبغي تزويدها للطلاب ، ولا ننتظر منهم القدرة على بنائها واستنتاجها .
2- التعقيد المعرفي أثناء التعلم :
إن المنهج البنائي غالباً ما يتضمن مشكلة يسعى الطلاب لإيجاد حلول لها كل بطريقته الخاصة ، ولذا لابد أن يتزود الفرد بخلفية معرفية منظمة وثيقة الصلة بموضوع المشكلة ، وعندما تغيب هذه المعرفة أو تكون غير منظمة فإن المشكلة سوف تتسم بالغموض والتعقيد ، مما يدفع الطالب إلى المحاولة والخطأ أو الانسحاب كلية من الموقف .
3- مشكلة التقويم :
لم يقدم المنهج البنائي صيغة متكاملة ومقبولة عن التقويم يساير إطاره الفلسفي والتربوي ، إذ يرفض البنائيون الاختبارات الموضوعية وذلك إنطلاقاً من تصورهم الفلسفي بأنه لا توجد حقيقة موضوعية يسعى التعليم لتنميتها ، فالحقيقة مرتبطة بالذات، وكل واحد يكون حقائقه بطريقته الخاصة.
4- القبول الاجتماعي للمنهج البنائي في التعليم :
إن المجتمع – ممثلاً في الآباء والمعلمين والسياسيين والاجتماعيين – يريدون بالدرجة الأولى تعليماً يزود الطلاب بالمعارف المختلفة ، وينقل التراث الثقافي من جيل إلى جيل آخر ، وهذا أمر لا يبدو واضحاً في المنهج البنائي الذي يركز على تزويد الطلاب بأهم المفاهيم والمعلومات الأساسية لبناء المعرفة ، ويترك لهم حرية تحصيل تلك المعرفة كل على حدة .
5- مقاومة المعلمين للمنهج البنائي في التعليم :
إن أي ابتداع في المجال التربوي يصطدم دائماً بطائفة من المعلمين المعارضين للإبداع بسبب تعودهم على نمط معين من التدريس ، أو لعدم كفاءتهم في ذلك المجال . وينطبق الأمر على المنهج البنائي الذي يتطلب نوعية خاصة من المعلمين المؤهلين والمقتنعين بجدواه في التعليم .
وبالرغم من تلك الصعوبات ، تتميز البنائية بكثرة تطبيقاتها والاستراتيجيات التدريسية القائمة عليها ويختص المحور الثالث بالتعرض لبعض تلك التطبيقات بشكل موجز ومبسط .
ثالثاً / تطبيقات البنائية في التربية
تتميز البنائية بأنها تجمع بين كونها : نظرية في المعرفة ، ومنهجاً في التفكير ، وطريقة في التدريس . وقد تعددت تطبيقات البنائية في طرق التدريس وتنوعت ، إلا أن جميعها تركز على بناء المعرفة من قبل الطالب . ومن أهم تلك التطبيقات :
1- دائرة التعلم Learning Cycle  :
وتعتبر من تطبيقات نظرية بياجيه في النمو المعرفي ، وتعد أفضل طرق التدريس التي تمكن المتعلم من الارتقاء بتفكيره واكتساب المفاهيم المجردة . وتقوم على عدة خطوات :
1- مرحلة الاكتشاف : وتبدأ بالتفاعل المباشر بين الطالب والخبرة الجديدة ، والتي تثير لديه تساؤلات مما يدفعه للبحث عن إجابات لتلك التساؤلات ، وأثناء عملية البحث قد يكتشف أشياء أو أفكار أو علاقات لم تكن معروفة لديه من قبل .
2- مرحلة تقديم المفهوم ( الإبداع المفاهيمي ) : وتبدأ بتزويد الطالب بالمفهوم أو المبدأ المرتبط بالخبرة الجديدة ، وأحياناً يطلب منه محاولة التوصل إلى صياغة مقبولة للمفهوم ، أو تعريفه بنفسه إذا كان ذلك ممكناً .
3- مرحلة تطبيق المفهوم ( الاتساع المفاهيمي ) : وفيها يقوم الطالب بأنشطة مخطط لها بحيث تعينه على انتقال أثر التعلم وتعميم خبرته التي اكتسبها في مواقف جديدة .
    وخطوات دائرة التعلم متكاملة بحيث تؤدي كل منها وظيفة تمهد للخطوة التي تليها . ويبقى لكي تكتمل دورة التعلم أن تنظم المعلومات التي اكتسبها الطالب مع ما لديه من تراكيب معرفية ، وقد تصادفه خبرات جديدة أثناء ذلك تستدعي قيامه بعملية الاستكشاف لتبدأ من جديد حلقة جديدة من دائرة التعلم (زيتون،2000) .
2- الخرائط المفاهيمية Concept Maps  : 
تُعَد هذه الاستراتيجية – والاستراتيجية التي تليها – تطبيقاً على نظرية أوزوبل في التعلم اللفظي ذي المعنى Ausubel Theory in Meaningful Verbal Learning . فالتعلم يكون ذا معنى لدى المتعلم إذا ارتبط ببنيته المعرفية المتكونة لديه من قبل ، ويرى أوزوبل أن هناك تشابهاً بين بنية المتعلم المعرفية والبنية المعرفية للمادة الدراسية من حيث المحتوى وطريقة التنظيم ، ولكي يكتسب المفهوم معنى يجب أن يكون في عقل المتعلم شيء يكافئه يطلق عليه البنية المعرفية ، فيتم دمج المعلومات الجديدة في البنيات المعرفية السابقة عن طريق عملية التضمين بطريقة تسمح بتعديل هذه البنيات ، مما ينشأ عنه بنيات معرفية جديدة ، إذ يعتبر أوزوبل البنية المعرفية إطاراً يتضمن الحقائق والمفاهيم والتعليمات والقضايا في تنظيم ذي طبيعة هرمية تمثل قمته المفاهيم الأكثر شمولاً وعمومية ، وتتدرج نحو الأقل عمومية كلما اتجهنا نحو قاعدة الهرم (سركز وخليل،1996) .
ظهرت عدة تطبيقات واستراتيجيات تدريسية قائمة على نظرية أوزوبل ، من أشهرها : خريطة المفاهيم . وهي عبارة عن رسوم تخطيطية ثنائية البعد للعلاقات بين المفاهيم ، ويتم التعبير عنها كتنظيمات هرمية متسلسلة لأسماء المفاهيم والكلمات الرابطة بينها . وتبدأ عادة بالمفاهيم الفوقية الشاملة ، ثم تتدرج إلى المفاهيم الأقل عمومية وشمولاً في مستويات هرمية متعاقبة حتى تصل في نهاية الخريطة إلى الأمثلة النوعية . وبذلك تساعد خرائط المفاهيم الطلاب في تحديد المفاهيم الرئيسية والعلاقات بينها مما يؤدي إلى مساعدتهم في تفسير الأحداث والأشياء التي يلاحظونها(زيتون،2000).
3- خريطة الشكل " VVee Diagrams  :
تنتمي هذه الخريطة فكرياً إلى نظرية أوزوبل . وهي عبارة عن أداة تعليمية توضح التفاعل القائم بين البناء المفاهيمي لفرع من فروع المعرفة والبناء المنهجي ( الإجرائي ) له ، حيث توجد الأحداث أو الأشياء في بؤرة الشكل " V " والتي يبدأ من عندها بناء المعرفة (زيتون،2000) ، فهي بذلك  تؤكد على التفاعل النشط بين جانبي العلم : التفكيري والإجرائي ، حيث تتكون من جانبين : الأول وهو الجانب الأيسر مفاهيمي/تفكيري يشتمل على المفاهيم والمبادئ والنظريات . والثاني وهو الجانب الأيمن إجرائي/فعلي يشتمل على التسجيلات أي الوقائع ، وتحولاتها أي تنظيمها وإعادة ترتيبها وصياغتها ، والإدعاءات المعرفية وهي إجابات للأسئلة المقترحة ، والإدعاءات القيمة وهي الشعور سواء كان موجباً أو سالباً . ويربط الجانبين معاً الأحداث والأشياء التي توجد في بؤرة الشكل " V " وهي عبارة عن الأجهزة والأدوات والوسائل التي تستخدم في دراسة الظاهرة ، ويتم التفاعل بين الجانبين الأيمن والأيسر من خلال السؤال الرئيسي الذي يقع أعلى الشكل " V " (زيتون وزيتون،1992) .
وتفيد هذه الخريطة في حل مشكلة التسلسل المعرفي من خلال تحديد المفاهيم والمبادئ المطلوبة لإدراك وفهم الأحداث والأشياء موضوع الدراسة ، وتقديمها بطريقة بنائية عند عمل التسجيلات والتحويلات (زيتون،2000) .                                    
4- استراتيجية التعلم الاكتشافي Discovery Learning  :
أسهمت نظرية برونر في تقديم هذه الاستراتيجية ، وفيها تقدم المادة التعليمية للتلاميذ في شكل ناقص غير متكامل وتشجعهم على تنظيمها وإكمالها ، وهي عملية تتضمن اكتشاف العلاقات القائمة بين هذه المعلومات ، ويتضمن الاكتشاف نوعين من التفكير :
1- التفكير التحليلي : ويسير في خطوات محددة متتابعة من تحديد المشكلة إلى الحل ، متبعاً منطق الاستنتاج أو الاستنباط .
2- التفكير الحدسي : وهو نوع من الاستبصار التخميني الذي يقود المتعلم إلى لتوصل لحل فجائي للمشكلة دون المرور بخطوات التفكير التحليلي ، ولهذا النوع أهمية في تنمية الابتكار لدى المتعلم (سركز وخليل،1996) .
وتتبنى هذه الاستراتيجية مبدأ التعلم التعاوني ، حيث يقسم الطلاب إلى مجموعات ، تعمل كل مجموعة على التخطيط لحل المشكلة ، والتوصل لحل نهائي تتفق عليه جميع المجموعات (زيتون وزيتون،1992) .
وهكذا يتضح أثر البنائية في التعلم والتعليم ، والنمو المعرفي لدى الطلاب من خلال بناء المعرفة بما يناسب البنية التركيبية للطالب . ورغم الصعوبات التي تصادف المنهج البنائي ، إلا أنه يعد من أفضل المناهج في التعليم لمناسبته لطبيعة المتعلم ، ومراعاته لاحتياجاته ورغبته في بناء معرفته الخاصة حسب قدراته واستعداداته ، وتحويله العملية التعليمية إلى مشاركة وعطاء بين المعلم والمتعلم بدلاً من حصرها في التلقين من جانب المعلم والاستماع من جانب المتعلم .
وتتجلى أهمية هذا المنهج في التركيز عليه والمناداة بتطبيقه واعتماد الاستراتيجيات التدريسية القائمة على البنائية في التعليم ، ليس على مستوى العالم ككل ، بل على مستوى العالم العربي أيضاً كما يظهر من الدراسات العديدة التي تؤكد على استخدام تلك الاستراتيجيات البنائية .




المراجع
....................
1.  بغورة ، الزواوي (2002) : البنيوية منهج أم محتوى ؟ . عالم الفكر . المجلد(30) . العدد(4) ،  الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، ص (41-71) .
2.  بياجيه ، جان (1985) : البنيوية . ت/عارف منيمنة وبشير أوبري ، بيروت،منشورات عويدات .
3.  حسان، حسان محمد (1983): دراسات في الفكر التربوي. جدة ، دار الشروق .
4.  دوكريه ، جان-جاك (2001) : البنائية : استخداماتها وإمكانياتها في التربية ، مستقبليات . المجلد(31) ، العدد(2) . ص ص (179-192) .
5.  الرويلي،ميجان و البازعي،سعد (1995) : دليل الناقد الأدبي . الرياض ، مكتبة العبيكان .
6.  زكريا ، فؤاد (1980) : الجذور الفلسفية للبنائية ، حوليات كلية الآداب . الكويت .
7.  زيتون،حسن و زيتون،كمال (1992) : البنائية : منظور إبستمولوجي وتربوي . د.ن .
8.  زيتون ، كمال (2000) : تدريس العلوم من منظور البنائية . الإسكندرية ، المكتب العلمي للكمبيوتر والنشر والتوزيع .
9.  سركز،العجيلي و خليل،ناجي (1996) : نظريات التعليم. بنغازي،منشورات جامعة قاريونس.
10. العبد الكريم ، راشد بن حسين (2003) : أثر ما بعد الحداثة في التعليم . ضمن ندوة التربية ومستقبل التعليم في المملكة العربية السعودية ، الرياض ، اللقاء السنوي الحادي عشر للجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية (جستن) ، 19-20/أبريل/2003 .
11. فضل ، صلاح (1985) : نظرية البنائية " في النقد الأدبي " . بيروت ، دار الآفاق الجديدة .
12. فون جلاسرسفيلد ، إرنست (2001) : البنـائية الراديكالية والتـدريس ،  مسـتقـبليـات . المجلد(31) ، العد(2) . ص ص (193-208) .     
   13. ناصر، إبراهيم (2001): فلسفات التربية. عمان، دار وائل.
   14. واردزوث ، بي.جي. (1991) : نظرية بياجيه في الارتقاء المعرفي . ت/فاضل الأزيرجاوي
        وآخرون ، بغداد ، دار الشئون الثقافية العامة .
   15.  4/1/1424هـ http://tarbia1.tripod.com/taleem.htm