السبت، 25 ديسمبر 2010

البنائية و التربية

البنائية والتربية
بحث في الأصول الفلسفية للتربية

مرام حامد الحازمي




أولاً / الجذور الفلسفية للبنائية
البنائية من المذاهب الفكرية التي برزت في العصر الحديث ، وشكلت ثورة في الدراسات الإنسانية والاجتماعية ، وطرق التعامل مع المعرفة ، امتد أثرها بشكل بارز إلى ميدان التربية لتصبح منهجاً ونشاطاً تربوياً يمارس من قبل الطالب بشكل خاص للوصول إلى المعرفة .
البنية والبنائية :
تشتق كلمة البنائية Constructivism من البناء Construction أو البنية  Structure، والتي هي مشتقة من الأصل اللاتيني Sturere بمعنى الطريقة التي يقام بها مبنى ما (فضل،1985،ص175) .
وفي اللغة العربية تعني كلمة بنية ما هو أصيل وجوهري وثابت لا يتبدل بتبدل الأوضاع والكيفيات (ناصر،2001،ص420) .
ويعرف فضل (1985،ص176) البنية بأنها " كل مكون من ظواهر متماسكة ، يتوقف كل منها على ما عداه ، ولا يمكنه أن يكون هو إلا بفضل علاقته بما عداه " .
وبناءً على ذلك يرى البنائيون أن كل ما في الوجود ( بما في ذلك الإنسان ) هو عبارة عن بناء متكامل يضم عدة أبنية جزئية بينها علاقات محددة ، وهذه الأبنية الجزئية لا قيمة لها في حد ذاتها بل قيمتها في العلاقة التي تربطها بعضها ببعض والتي تجمعها في ترتيب يؤلف نظاماً محدداً يعطي للبناء الكلي قيمته ووظيفته (ناصر،2001) .
وقد اختلفت النظرة إلى مفهوم البنائية ، فهناك من يرى أن البنائية " مذهب فلسفي " يسعى إلى الشمول ، ويستهدف تقديم تفسير موحد لمجموعة كبيرة من المشكلات ، ويضم مجالات معرفية متعددة في إطار نظرة واحدة إلى العالم وإلى طبيعة الأشياء (زكريا،1980) . ويرى زكريا نفسه (1980،ص9) أن البنائية " نظرية في العلم تؤكد أهمية النموذج أو البناء في كل معرفة علمية ، وتجعل للعلاقات الداخلية والنسق الباطن قيمة كبرى في اكتساب أي علم " ، بينما يؤكد ناصر (2001،ص422) على أن البنائية هي " منهج تحليلي تركيبي يعمد إلى تحليل كل بناء إلى جزئياته التي يتكون منها للكشف عن العلاقات الموضوعية التي تربطها بعضها ببعض ، ثم إعادة تركيبها في بناء كلي جديد يكون أرقى من البناء السابق وأكثر تقدماً " ، فيما يرى فضل (1985،ص205) أن البنائية " نشاط إنساني يتضمن تتابع منتظم لعدد من العمليات العقلية الدقيقة ، فهو يهدف إلى إعادة تكوين " الشيء " بطريقة تبرز قوانين قيامه بوظائفه " ، والإنسان البنائي يتناول الواقع ويفككه ويحلله ثم يقوم بتركيبه مرة أخرى .
وأدى اختلاف النظرة لمفهوم البنائية إلى تعدد استخداماتها وتطبيقاتها في العلوم المختلفة كل بما يناسبه ، إلا أن هناك إطاراً عاماً يتفق عليه جميع البنائيين ويعتبر نقطة الانطلاق في الدراسات البنائية المختلفة ، وهو النسق الكلي للظواهر المختلفة ، والتركيز على العلاقات التي تربط أجزاء هذه الظواهر .
نشأة البنائية :
ظهرت البنائية " كمنهج " للتفكير منذ زمن بعيد ، عندما أحدث ديكارت (1596-1650) نقلة في دراسة العلوم الطبيعية بتطبيق النموذج الرياضي على الظواهر الطبيعية ، فيعد ذلك العلم الحديث بنائياً لأنه استهدف الاهتداء إلى " البناء " الكامن وراء الظواهر الطبيعية والتعبير عن هذا البناء بلغة رياضية (زكريا،1980) ، كما تحدث الفيلسوف الإيطالي جيامبتسا فيكو (1668-1744) عن بناء المعرفة حين عبر عن فكرة أن عقل الإنسان يبني المعرفة بقوله : " إن الإله يعرف العالم لأنه هو الذي خلقه ، وما يستطيع الكائن البشري أن يعرفه هو ما صنعه بنفسه فقط " فكانت هذه العبارة أول بيان رسمي للبنائية ، ثم كتب إيمانويل كانط (1724-1804) في كتابه " نقد العقل الخالص " يقول : يستطيع العقل الإنساني أن يفهم فقط ما أنتجه هو نفسه وفقاً لخططه الخاصة به " (فون جلاسرسفيلد،2001،ص198) وهكذا يظهر أن البنائية باعتبارها " مذهباً " فلسفياً ظهرت عند كانط ، فالبنائية - مثل فلسفة كانط – تبحث عن الأساس الشامل اللازماني الذي ترتكز عليه مظاهر الحياة ، وتُعمل العقل في سبيل ذلك ، وتثق به أكثر من الحواس . فهي – مثل فلسفة كانط – تترفع عن النظرة التجريبية ، وتؤكد أن تقدم المعرفة لا يتم عن طريق وقائع تجريبية ، بقدر ما يتم عن طريق إعادة النظر في بناء ظواهر موجودة بالفعل ولكنها تتخذ مظهراً جديداً في كل عصر . والفرق بين فلسفة كانط والبنائية أن كانط كان يركز على العلوم الرياضية والطبيعية ، بينما يركز البنائيون على العلوم الإنسانية والاجتماعية (زكريا،1980) .
لاقت البنائية اهتماماً كبيراً في النصف الثاني من القرن الماضي ، حيث ظهرت كردة فعل على الوجودية التي انبعثت من جوف الحروب العالمية لتبحث مشكلة الحرية وعلاقتها بالمسئولية والقلق والتمرد ، وتصل إلى عزلة الإنسان وانفصامه عن واقعه والعالم الذي يعيش فيه وشعوره بالإحباط والضياع والعبثية من جراء الحروب (الرويلي والبازعي،1995) ، أما وقد تغيرت ظروف أوروبا وعادت إلى السعي والبناء والتعمير شعر المجتمع الأوروبي بالحاجة إلى اتجاهات فكرية جديدة مفتوحة غير مغلقة،مرنة غير جامدة،تساعد على البناء وتساير التقدمية (ناصر،2001) فظهرت الأصوات التي تنادي بالنظام الكلي المتكامل والمتناسق الذي يوحد العلوم ويربطها بعضها ببعض . من هنا جاءت البنائية كمنهجية شاملة توحد جميع العلوم في نظام إيماني جديد من شانه أن يفسر الظواهر الإنسانية كلها بشكل علمي ، وارتكزت مرتكزاً معرفياً يؤكد على كون العالم حقيقة واقعة يمكن إدراكها ، ولذا توجهت البنائية توجهاً شمولياً إدماجياً ينظر للعالم بأكمله بما فيه الإنسان(الرويلي والبازعي،1995).
وقد كان علم اللغة الأرض الخصبة التي نما فيها المنهج البنائي وترعرع ، حيث درس علماء اللغة  وعلى رأسهم العالم السويسري " فرديناند دي سوسير " ، عناصر اللغة والسمات المميزة لعلاقاتها بوصفها أنساقاً لا علاقة لها بالعالم الذي تعبر عنه . ونجاح اللغويات كعلم إنساني في بلوغ مرتبة العلم المنضبط كان عاملاً مشجعاً للباحثين في الميادين الإنسانية والاجتماعية الأخرى على الاقتداء بهذا العلم الناجح في منهجه . وهكذا انتقلت البنائية من اللغويات إلى الانثربولوجيا على يد العالم البنائي " كلود ليفي ستراوش " الذي نقل علم الانثربولوجيا إلى ميدان العلوم المنضبطة (زكريا،1980) .
ثم تتابع انتقال البنائية إلى ميادين وعلوم أخرى ، حيث كان " جاك لاكان " رائد البنائية في التحليل النفسي ، و " رولان بارت " في النقد الأدبي ، و " ميشيل فوكو " في الفلسفة ، وأخيراً " جان بياجيه " من خلال نظريته البنائية في المعرفة ، والتي كان لها الدور الأكبر في انتقال البنائية إلى ميدان التربية .
ثانياً / البنائية وعلاقتها بالتربية
تعتبر التربية من أحدث الميادين التي طرقتها البنائية بقوة ، وظهرت البنائية في التربية مرتبطة ببناء المعرفة ( أو بنية المعرفة ) وبنية المفاهيم ، ولذا عرفت بالبنائية المعرفية أو البنائية المفاهيمية في التربية ، وظهر ما يسمى بالمناهج البنائية ونظريات التعليم البنائية والطرق البنائية في التدريس والمعلم البنائي والطالب البنائي .
ويعد جان بياجيه أول من طرق باب التربية بنظريته البنائية المعرفية ، ونظراً للدور الكبير الذي قام به بياجيه في هذا المجال ، فإن ذلك يستلزم إلقاء الضوء على نظرية بياجيه باعتبارها أساس البنائية في التربية .
جان بياجيه والبنائية :
وُلد العالم السويسري جان بياجيه عام 1896م وعمل فيلسوفاً وعالم أحياء وعالم منطق وعالم نفس وتربوياً ، وقدم الكثير من الإسهامات في تلك المجالات ، وتوفي عام 1980م . من أبرز إنجازاته نظرية الارتقاء المعرفي لدى الطفل ، والتي لا زالت تطبيقاتها تخدم مختلف المجالات وعلى رأسها التربية (واردزورث،1991) . وبالرغم من رفض بياجيه القوي لاعتبار نفسه مربياً ، إلا أنه ظل مهتماً طوال حياته اهتماماً كبيراً بالتربية ، حيث قضى سنوات عديدة مديراً للمكتب الدولي للتربية ، كما كان ينشر بحوثاً تربوية بانتظام بداية من العشرينات وحتى وفاته مطلع الثمانينات (دوكريه،2001،ص181) .
وضع بياجيه نظرية متكاملة ومتفردة حول النمو المعرفي لدى الطفل ، وتقوم هذه النظرية على عنصرين أساسيين :
1- الحتمية المنطقية ، وتختص بافتراضات بياجيه عن العمليات المنطقية وتصنيف مراحل النمو العقلي للطفل .
2- البنائية ، وتختص بالنمو المعرفي أي ما وضحه بياجيه بمبدأ بنائية المعرفة " أن الفرد هو الذي يبني معرفته " (زيتون،2000) .
فقد دعا بياجيه إلى ربط بناء المعرفة بالنمو المعرفي للإنسان منذ طفولته ، حيث يؤكد أن الطفل يولد ولديه اتجاهان فطريان هما : التنظيم والتكيف . والنمو المعرفي ما هو إلا تغير في التراكيب العقلية والبنيات المعرفية الموجودة (سركز وخليل،1996) . ويتضمن ذلك عمليتين رئيسيتين :
1) التمثل : وهو عملية عقلية مسئولة عن استقبال المعلومات ووضعها في تراكيب معرفية موجودة عند الفرد .
2) المواءمة : وهي عملية عقلية مسئولة عن تعديل هذه التراكيب أو الأبنية المعرفية لتناسب ما يستجد من مثيرات .
والتمثيل والمواءمة عمليتان مكملتان لبعضهما وينتج عنهما تصحيح الأبنية المعرفية وإثراؤها وجعلها أكثر قدرة على التعميم وتكوين المفاهيم (زيتون وزيتون،1992) .
ويميز بياجيه بين ثلاثة أنماط من المناهج التعليمية : المناهج اللفظية التقليدية ، والمناهج النشطة ، والمناهج الحدسية . ويرى أن المنهج النشط هو أفضلها باعتباره متسقاً مع نظريته في توجيه نشاط المتعلم الخاص للوصول إلى الحقائق بنفسه والحصول على معرفته وتكوين بنياته بذاته ، إذ أن هدف التربية عند بياجيه هو تكوين الذكاء وليس تأسيس الذاكرة .
أما عن طرائق التعليم فإن بياجيه ينتقد الطرائق التقليدية للمعارف المهيكلة سابقاً ، من خلال ذكاء الآباء والمعلمين أو من خلال لغتهم مؤكداً أن المفاهيم لا تدرك بالاستماع السلبي بل تبنى بالفعل والعمل ، فالفعل يكوّن صوراً ذهنية من شأنها تشكيل بنى تنظيمية لأفعال جديدة ، والسبيل إلى ذلك هو التدريس من خلال النشاط البنائي للمتعلم الذي يتيح أمامه فرص الاكتشاف المعرفي لنمو وتعديل بنياته (سركز وخليل،1996) ، إلا أن ذلك لا يلغي دور المناهج الأخرى في اكتساب المعرفة .
وبذلك تصبح البنائية عند بياجيه منهجاً للتطبيق وليست مذهباً فلسفياً ، وهي منهج مفتوح على غيره من المناهج العلمية : تتداخل معها ، وتتصل بها لتعمل معاً على إيجاد الحلول المناسبة للمشكلات المعرفية (بياجيه،1985) .
التعلم البنائي :
حظيت البنائية بالاهتمام الكبير في السنوات الأخيرة ، فهي نظرية عن المعرفة والتعلم ، إذ تقدم تصوراً عن المعرفة وعن الطريقة التي يحدث بها العلم . وهي ترى أن المعرفة مؤقتة نامية ، وغير موضوعية وتبنى داخلياً وتتأثر بالثقافة والمجتمع . فترى أن المتعلم يبني بنفسه فهمه الخاص عن العالم من حوله بدلاً من أخذ هذا الفهم عن الآخرين ، فالبنائية تضع المتعلم في مركز عملية التعلم (العبد الكريم،2003) .
وتقدم البنائية بما تحويه من فلسفة تربوية تعلماً أفضل ، فالفرد يبني معرفته بنفسه من خلال مروره بخبرات كثيرة تؤدي إلى بناء المعرفة الذاتية في عقله . وبهذا تصبح المعلومات المتوفرة في المصادر المختلفة كالمواد الخام لا يستفيد منها الإنسان إلا بعد قيامه بعمليات معالجة لها . فبعد وصول المعلومة للطالب يبدأ بالتفكير فيها وتصنيفها في عقله وتبويبها وربطها مع غيرها . وهكذا إلى أن يصبح ما تعلمه ذا معنى ومغزى ، وهنا يمكن القول بأن الطالب تعلم شيئاً ((//tarbia1.tripod.com.
أما المعلم ، فيصبح دوره هو التوجيه والإرشاد ، وطرح قضايا عامة دون التدخل في جزئياتها ، بل على الطالب تحليل تلك القضية والتعرف على جزئياتها ومعطياتها ، ومن ثم استنتاج العلاقات وتركيب بنية معرفية قائمة بذاتها . فالمعلم يجعل المفاهيم الموجودة عند الطالب واضحة ، كما أنه ينظم بيئة التعلم ، ويوفر أدوات التعلم ، ويشارك في إدارة التعلم وتقويمه ، وهو مصدر احتياطي للمعلومات إذا لزم الأمر (ناصر،2001) .
ويضع فون جلاسرسفيلد (2001،ص206) – وهو أحد أشهر منظري البنائية المعاصرين – مبادئ أساسية للتعلم البنائي ، منها :
1- يجب أن لا يبدأ التدريس بعرض حقائق مقدسة ، بل لابد من إتاحة الفرصة ليقوم الطالب بالتفكير ولابد أن يقتنع المعلم بأن الطالب قادر على التفكير .
2- لا يكفي أن يكون الطلاب على ألفة بمحتوى المنهج ، بل لابد أن يكون لديهم أيضاً مدى واسع من المواقف التعليمية متضمنةً المفاهيم التي يمكن بناؤها .
3- لا يصل الطالب إلى الحل صدفة ، بل يعمل للوصول إليه ، ولا ينبغي إخباره بأن هناك " خطأ " في هذا العمل ، بل لابد من الاعتراف بجهده ، وإهمال ذلك سوف يطفئ أي دافعية لدى المتعلم للتعلم .
4- تُكوِّن المفاهيم معانٍ مختلفة لدى الطلاب ، ولكي يعاد بناء المفاهيم بشكل سليم يجب على المعلم أن يكون ملماً بنظريات وأفكار الطلاب ، حتى يمكنه التأثير على تفكيرهم ، ومنع بناء أفكار خاطئة .
5- إن بناء المفاهيم يقوم على التفكير ، وعلى المعلم أن يكون لديه وسائل تحفيز لهذا التفكير ، وأيسر السبل لذلك هو ترك الطلاب يتحدثون عما يفكرون به . فمن خلال الحوار تبرز الفجوات والتناقضات في سلسلة الأفكار ، كما يصبح ذلك عادة لدى الطالب ، وأي فرصة تتاح أمامه لحل مشكلة قد تتحول إلى حوار مع الذات .
المناهج البنائية :
تركز المناهج البنائية على المفاهيم أو البنية الأساسية للمواد الدراسية ، فلكل مادة مجموعة مفاهيم أساسية ، والمهم هو تحديد تلك المفاهيم التي تُكوِّن البناء الأساسي لكل نظام معرفي ، وتوصيلها بالطريقة المناسبة مع مطالب النمو وطبيعة المرحلة التعليمية . وتعتبر الرياضيات الحديثة مثالاً واضحاً على ذلك ، فهي تدمج مواضيع رياضية مختلفة كانت في الماضي وحدات مستقلة ، بحيث تصبح المفاهيم الرياضية أكثر شمولاً من القديمة ، فهي دراسة لبنى رياضية عامة ، وهي من ناحية أخرى تتجه نحو التجريد ، وبالتجريد والتعميم تمكنت الرياضيات من تلبية احتياجات الكثير من الفروع العلمية الأخرى ، بل تدخلت بشكل صريح في مختلف العلوم : الطبيعية والإنسانية والاجتماعية (حسان،1983) .
ومن رواد المناهج البنائية " برونر " الذي وضع نظرية للتعليم قائمة على بنية المعرفة ، ويقصد بهذه البنية مجموعة المبادئ والمفاهيم والعموميات والنظريات الخاصة بأي فرع علمي ، ثم طرق وأساليب البحث التي تؤدي إلى التوصل لهذه الأساسيات المعرفية . فالبنية المعرفية عند برونر تتكون من مادة معرفية وأساليب البحث الخاصة بها ، إذ لابد من التسلسل المنظم لعرض المادة التعليمية من أجل التعلم . وبناءً على ذلك وضع برونر " المنهج الحلزوني Spiral Curriculum " الذي يؤكد تقديم بنية المادة الدراسية إلى المتعلم في مراحل تعليمه المختلفة بصورة متكررة ومتدرجة في التعقيد ، وفق ما يسمح به نموه العقلي في مراحله المختلفة ، فينتج في النهاية صورة واضحة متكاملة لبنية العلم لدى المتعلم . فمثلاً : يمكن تدريس مفهوم " التأكسد " في العلوم لطلاب المرحلة الابتدائية في صورة " صدأ الأجسام " ، ويدرس المفهوم نفسه لطلاب المرحلة الإعدادية في صورة " اتحاد المادة بالأكسجين " ، ويدرس لطلاب المرحلة الثانوية في صورة " فقد أو اكتساب إلكترونات " ، وفي المرحلة الجامعية يتدرج الطلاب في دراسة درجة تأكسد المادة (سركز وخليل،1996) .
خصائص المنهج البنائي :
يتميز المنهج البنائي بعدة خصائص جعلت منه منهجاً مثيراً فريداً يمكن تطبيقه على أي مجال من مجالات العلوم المختلفة . ومن أهم هذه الخصائص (فضل،1985 وبغورة،2002) : 
1- أسبقية الكل على الأجزاء :
فالمنهج البنائي يتميز بالنظرة الكلية إلى الموضوع ، وهو بذلك يتبع مدرسة القشطالت التي تنظر إلى الكل قبل الجزء . إلا أنه يتميز عنها بأنه يبحث في علاقات الأجزاء بعضها ببعض ، بعكس القشطالت التي تكتفي بمعرفة الكل وأجزائه بغض النظر عن العلاقات التي تربط تلك الأجزاء .
2- منهج تحليلي تركيبي :
المنهج البنائي يقوم على تحليل الظاهرة إلى أجزائها المكونة لمعرفة العلاقات بين هذه الأجزاء ومن ثم إعادة تركيبها من جديد في بناء أشد قوة وأكثر رقياً . فهو بذلك يستخدم أعلى مستويات المعرفة والأداء العقلي ، ويصل إلى المستوى " الإبداعي " في التعلم كما حدده " بلوم " في تصنيفه للمجال المعرفي .
3- يتخذ قاعدة المناسبة :
ينظر المنهج البنائي إلى الموضوع أو المفهوم في سياقه الذي جاء فيه ، بغض النظر عما يحيط به من ظروف أخرى ، فهو بذلك يعترف بالتخصص . وتعني قاعدة المناسبة وجهة النظر التي يدرس منها الموضوع ، فالظاهرة نفسها يتم دراستها من وجهة فيزيائية ورياضية وحيوية واجتماعية ولغوية متخصصة ، فهو بذلك يوحد دراسة الموضوع في العلوم المختلفة ، دون تداخل واضح لتلك العلوم .
4- يعتمد على القيم الخلافية :
يقابل المنهج البنائي بين الظواهر أو المفاهيم المختلفة وينظمها – لا بالرغم من اختلافها – ولكن بفضل هذا الاختلاف نفسه . " ويؤكد برونر على أن المفاهيم الجديدة يكون لها معنى أفضل في ذهن المتعلم حينما تتباين وتختلف مع مفاهيم أخرى " (سركز وخليل،1996،ص80) . وهكذا يعترف المنهج البنائي بالفوارق بين المواضيع والمفاهيم ومعرفة العلاقة بينها ، وينظمها حول محور بحيث تبدو كتنويعات مختلفة ناجمة عن نوع من التوافق والائتلاف .
5- يمتد عمقاً لا عرضاً :
يهتم المنهج البنائي بالدراسة التفصيلية لحالات ومواضيع معمقة محددة ، فمن غير المجدي دراسة حالات كثرة بشكل سطحي ، فهذا لا يؤدي إلى أي نتائج ذات قيمة ، والأفضل هو دراسة حالات قليلة بتحليل عميق ، والمهم هو اختيار مواضيع تسمح بصياغة أحكام حاسمة لأنها تمثل غيرها تمثيلاً صحيحاً . فهو بذلك منهج يعتمد على الاستنتاج والاستنباط أكثر من اعتماده على الاستقراء .
6- المنهج البنائي منهج علمي :
على الرغم من اهتمام المنهج البنائي على العقل قبل الحواس ، ونظرته الدونية للمنهج التجريبي ، إلا أن الخصائص السابقة تؤكد على أن المنهج البنائي يقوم على خطوات ذات طابع تجريبي ، كما يقوم على مبادئ ذات طبيعة عقلية ، وهذه الطبيعة الازدواجية جعلت منه " منهجاً علمياً " متميزاً قائماً بذاته ، يشكل معلماً من معالم تطور المناهج العلمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية .
مشكلات البنائية في التربية :
يعاني المنهج البنائي من صعوبات في التطبيق ، ومن تلك الصعوبات (زيتون وزيتون،1992) :
1- ليست كل المعرفة يمكن بناؤها بواسطة الطلاب :
هناك أنواع من المعرفة – خاصة بعض أنواع المعرفة التقريرية – يصعب أو يستحيل تنميتها من خلال المنهج البنائي مثل : كتلة الإلكترون ، وسرعة الضوء . مثل هذه المعارف ينبغي تزويدها للطلاب ، ولا ننتظر منهم القدرة على بنائها واستنتاجها .
2- التعقيد المعرفي أثناء التعلم :
إن المنهج البنائي غالباً ما يتضمن مشكلة يسعى الطلاب لإيجاد حلول لها كل بطريقته الخاصة ، ولذا لابد أن يتزود الفرد بخلفية معرفية منظمة وثيقة الصلة بموضوع المشكلة ، وعندما تغيب هذه المعرفة أو تكون غير منظمة فإن المشكلة سوف تتسم بالغموض والتعقيد ، مما يدفع الطالب إلى المحاولة والخطأ أو الانسحاب كلية من الموقف .
3- مشكلة التقويم :
لم يقدم المنهج البنائي صيغة متكاملة ومقبولة عن التقويم يساير إطاره الفلسفي والتربوي ، إذ يرفض البنائيون الاختبارات الموضوعية وذلك إنطلاقاً من تصورهم الفلسفي بأنه لا توجد حقيقة موضوعية يسعى التعليم لتنميتها ، فالحقيقة مرتبطة بالذات، وكل واحد يكون حقائقه بطريقته الخاصة.
4- القبول الاجتماعي للمنهج البنائي في التعليم :
إن المجتمع – ممثلاً في الآباء والمعلمين والسياسيين والاجتماعيين – يريدون بالدرجة الأولى تعليماً يزود الطلاب بالمعارف المختلفة ، وينقل التراث الثقافي من جيل إلى جيل آخر ، وهذا أمر لا يبدو واضحاً في المنهج البنائي الذي يركز على تزويد الطلاب بأهم المفاهيم والمعلومات الأساسية لبناء المعرفة ، ويترك لهم حرية تحصيل تلك المعرفة كل على حدة .
5- مقاومة المعلمين للمنهج البنائي في التعليم :
إن أي ابتداع في المجال التربوي يصطدم دائماً بطائفة من المعلمين المعارضين للإبداع بسبب تعودهم على نمط معين من التدريس ، أو لعدم كفاءتهم في ذلك المجال . وينطبق الأمر على المنهج البنائي الذي يتطلب نوعية خاصة من المعلمين المؤهلين والمقتنعين بجدواه في التعليم .
وبالرغم من تلك الصعوبات ، تتميز البنائية بكثرة تطبيقاتها والاستراتيجيات التدريسية القائمة عليها ويختص المحور الثالث بالتعرض لبعض تلك التطبيقات بشكل موجز ومبسط .
ثالثاً / تطبيقات البنائية في التربية
تتميز البنائية بأنها تجمع بين كونها : نظرية في المعرفة ، ومنهجاً في التفكير ، وطريقة في التدريس . وقد تعددت تطبيقات البنائية في طرق التدريس وتنوعت ، إلا أن جميعها تركز على بناء المعرفة من قبل الطالب . ومن أهم تلك التطبيقات :
1- دائرة التعلم Learning Cycle  :
وتعتبر من تطبيقات نظرية بياجيه في النمو المعرفي ، وتعد أفضل طرق التدريس التي تمكن المتعلم من الارتقاء بتفكيره واكتساب المفاهيم المجردة . وتقوم على عدة خطوات :
1- مرحلة الاكتشاف : وتبدأ بالتفاعل المباشر بين الطالب والخبرة الجديدة ، والتي تثير لديه تساؤلات مما يدفعه للبحث عن إجابات لتلك التساؤلات ، وأثناء عملية البحث قد يكتشف أشياء أو أفكار أو علاقات لم تكن معروفة لديه من قبل .
2- مرحلة تقديم المفهوم ( الإبداع المفاهيمي ) : وتبدأ بتزويد الطالب بالمفهوم أو المبدأ المرتبط بالخبرة الجديدة ، وأحياناً يطلب منه محاولة التوصل إلى صياغة مقبولة للمفهوم ، أو تعريفه بنفسه إذا كان ذلك ممكناً .
3- مرحلة تطبيق المفهوم ( الاتساع المفاهيمي ) : وفيها يقوم الطالب بأنشطة مخطط لها بحيث تعينه على انتقال أثر التعلم وتعميم خبرته التي اكتسبها في مواقف جديدة .
    وخطوات دائرة التعلم متكاملة بحيث تؤدي كل منها وظيفة تمهد للخطوة التي تليها . ويبقى لكي تكتمل دورة التعلم أن تنظم المعلومات التي اكتسبها الطالب مع ما لديه من تراكيب معرفية ، وقد تصادفه خبرات جديدة أثناء ذلك تستدعي قيامه بعملية الاستكشاف لتبدأ من جديد حلقة جديدة من دائرة التعلم (زيتون،2000) .
2- الخرائط المفاهيمية Concept Maps  : 
تُعَد هذه الاستراتيجية – والاستراتيجية التي تليها – تطبيقاً على نظرية أوزوبل في التعلم اللفظي ذي المعنى Ausubel Theory in Meaningful Verbal Learning . فالتعلم يكون ذا معنى لدى المتعلم إذا ارتبط ببنيته المعرفية المتكونة لديه من قبل ، ويرى أوزوبل أن هناك تشابهاً بين بنية المتعلم المعرفية والبنية المعرفية للمادة الدراسية من حيث المحتوى وطريقة التنظيم ، ولكي يكتسب المفهوم معنى يجب أن يكون في عقل المتعلم شيء يكافئه يطلق عليه البنية المعرفية ، فيتم دمج المعلومات الجديدة في البنيات المعرفية السابقة عن طريق عملية التضمين بطريقة تسمح بتعديل هذه البنيات ، مما ينشأ عنه بنيات معرفية جديدة ، إذ يعتبر أوزوبل البنية المعرفية إطاراً يتضمن الحقائق والمفاهيم والتعليمات والقضايا في تنظيم ذي طبيعة هرمية تمثل قمته المفاهيم الأكثر شمولاً وعمومية ، وتتدرج نحو الأقل عمومية كلما اتجهنا نحو قاعدة الهرم (سركز وخليل،1996) .
ظهرت عدة تطبيقات واستراتيجيات تدريسية قائمة على نظرية أوزوبل ، من أشهرها : خريطة المفاهيم . وهي عبارة عن رسوم تخطيطية ثنائية البعد للعلاقات بين المفاهيم ، ويتم التعبير عنها كتنظيمات هرمية متسلسلة لأسماء المفاهيم والكلمات الرابطة بينها . وتبدأ عادة بالمفاهيم الفوقية الشاملة ، ثم تتدرج إلى المفاهيم الأقل عمومية وشمولاً في مستويات هرمية متعاقبة حتى تصل في نهاية الخريطة إلى الأمثلة النوعية . وبذلك تساعد خرائط المفاهيم الطلاب في تحديد المفاهيم الرئيسية والعلاقات بينها مما يؤدي إلى مساعدتهم في تفسير الأحداث والأشياء التي يلاحظونها(زيتون،2000).
3- خريطة الشكل " VVee Diagrams  :
تنتمي هذه الخريطة فكرياً إلى نظرية أوزوبل . وهي عبارة عن أداة تعليمية توضح التفاعل القائم بين البناء المفاهيمي لفرع من فروع المعرفة والبناء المنهجي ( الإجرائي ) له ، حيث توجد الأحداث أو الأشياء في بؤرة الشكل " V " والتي يبدأ من عندها بناء المعرفة (زيتون،2000) ، فهي بذلك  تؤكد على التفاعل النشط بين جانبي العلم : التفكيري والإجرائي ، حيث تتكون من جانبين : الأول وهو الجانب الأيسر مفاهيمي/تفكيري يشتمل على المفاهيم والمبادئ والنظريات . والثاني وهو الجانب الأيمن إجرائي/فعلي يشتمل على التسجيلات أي الوقائع ، وتحولاتها أي تنظيمها وإعادة ترتيبها وصياغتها ، والإدعاءات المعرفية وهي إجابات للأسئلة المقترحة ، والإدعاءات القيمة وهي الشعور سواء كان موجباً أو سالباً . ويربط الجانبين معاً الأحداث والأشياء التي توجد في بؤرة الشكل " V " وهي عبارة عن الأجهزة والأدوات والوسائل التي تستخدم في دراسة الظاهرة ، ويتم التفاعل بين الجانبين الأيمن والأيسر من خلال السؤال الرئيسي الذي يقع أعلى الشكل " V " (زيتون وزيتون،1992) .
وتفيد هذه الخريطة في حل مشكلة التسلسل المعرفي من خلال تحديد المفاهيم والمبادئ المطلوبة لإدراك وفهم الأحداث والأشياء موضوع الدراسة ، وتقديمها بطريقة بنائية عند عمل التسجيلات والتحويلات (زيتون،2000) .                                    
4- استراتيجية التعلم الاكتشافي Discovery Learning  :
أسهمت نظرية برونر في تقديم هذه الاستراتيجية ، وفيها تقدم المادة التعليمية للتلاميذ في شكل ناقص غير متكامل وتشجعهم على تنظيمها وإكمالها ، وهي عملية تتضمن اكتشاف العلاقات القائمة بين هذه المعلومات ، ويتضمن الاكتشاف نوعين من التفكير :
1- التفكير التحليلي : ويسير في خطوات محددة متتابعة من تحديد المشكلة إلى الحل ، متبعاً منطق الاستنتاج أو الاستنباط .
2- التفكير الحدسي : وهو نوع من الاستبصار التخميني الذي يقود المتعلم إلى لتوصل لحل فجائي للمشكلة دون المرور بخطوات التفكير التحليلي ، ولهذا النوع أهمية في تنمية الابتكار لدى المتعلم (سركز وخليل،1996) .
وتتبنى هذه الاستراتيجية مبدأ التعلم التعاوني ، حيث يقسم الطلاب إلى مجموعات ، تعمل كل مجموعة على التخطيط لحل المشكلة ، والتوصل لحل نهائي تتفق عليه جميع المجموعات (زيتون وزيتون،1992) .
وهكذا يتضح أثر البنائية في التعلم والتعليم ، والنمو المعرفي لدى الطلاب من خلال بناء المعرفة بما يناسب البنية التركيبية للطالب . ورغم الصعوبات التي تصادف المنهج البنائي ، إلا أنه يعد من أفضل المناهج في التعليم لمناسبته لطبيعة المتعلم ، ومراعاته لاحتياجاته ورغبته في بناء معرفته الخاصة حسب قدراته واستعداداته ، وتحويله العملية التعليمية إلى مشاركة وعطاء بين المعلم والمتعلم بدلاً من حصرها في التلقين من جانب المعلم والاستماع من جانب المتعلم .
وتتجلى أهمية هذا المنهج في التركيز عليه والمناداة بتطبيقه واعتماد الاستراتيجيات التدريسية القائمة على البنائية في التعليم ، ليس على مستوى العالم ككل ، بل على مستوى العالم العربي أيضاً كما يظهر من الدراسات العديدة التي تؤكد على استخدام تلك الاستراتيجيات البنائية .




المراجع
....................
1.  بغورة ، الزواوي (2002) : البنيوية منهج أم محتوى ؟ . عالم الفكر . المجلد(30) . العدد(4) ،  الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، ص (41-71) .
2.  بياجيه ، جان (1985) : البنيوية . ت/عارف منيمنة وبشير أوبري ، بيروت،منشورات عويدات .
3.  حسان، حسان محمد (1983): دراسات في الفكر التربوي. جدة ، دار الشروق .
4.  دوكريه ، جان-جاك (2001) : البنائية : استخداماتها وإمكانياتها في التربية ، مستقبليات . المجلد(31) ، العدد(2) . ص ص (179-192) .
5.  الرويلي،ميجان و البازعي،سعد (1995) : دليل الناقد الأدبي . الرياض ، مكتبة العبيكان .
6.  زكريا ، فؤاد (1980) : الجذور الفلسفية للبنائية ، حوليات كلية الآداب . الكويت .
7.  زيتون،حسن و زيتون،كمال (1992) : البنائية : منظور إبستمولوجي وتربوي . د.ن .
8.  زيتون ، كمال (2000) : تدريس العلوم من منظور البنائية . الإسكندرية ، المكتب العلمي للكمبيوتر والنشر والتوزيع .
9.  سركز،العجيلي و خليل،ناجي (1996) : نظريات التعليم. بنغازي،منشورات جامعة قاريونس.
10. العبد الكريم ، راشد بن حسين (2003) : أثر ما بعد الحداثة في التعليم . ضمن ندوة التربية ومستقبل التعليم في المملكة العربية السعودية ، الرياض ، اللقاء السنوي الحادي عشر للجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية (جستن) ، 19-20/أبريل/2003 .
11. فضل ، صلاح (1985) : نظرية البنائية " في النقد الأدبي " . بيروت ، دار الآفاق الجديدة .
12. فون جلاسرسفيلد ، إرنست (2001) : البنـائية الراديكالية والتـدريس ،  مسـتقـبليـات . المجلد(31) ، العد(2) . ص ص (193-208) .     
   13. ناصر، إبراهيم (2001): فلسفات التربية. عمان، دار وائل.
   14. واردزوث ، بي.جي. (1991) : نظرية بياجيه في الارتقاء المعرفي . ت/فاضل الأزيرجاوي
        وآخرون ، بغداد ، دار الشئون الثقافية العامة .
   15.  4/1/1424هـ http://tarbia1.tripod.com/taleem.htm                          


الأربعاء، 22 ديسمبر 2010

الثلاثاء، 14 ديسمبر 2010

الحداثة

الحداثة
جان بودريار
ترجمة: د. محمد سبيلا
ليست الحداثة مفهوما سوسيولوجيا، ولا مفهوما سياسيا، وليست بالتمام مفهوما تاريخيا، بل هي نمط حضاري خاص يتعارض مع النمط التقليدي، أي مع كل الثقافات السابقة عليه أو التقليدية. فمقابل التنوع الجغرافي والرمزي لهذه الأخيرة تفرض الحداثة نفسها على أنها شيء واحد متجانس، يشع عالميا انطلاقا من الغرب. ومع ذلك فهي تظل مدلولا ملتبسا يشير إلى تطور تاريخي وإلى تغير في الذهنية.
        إن الحداثة، من حيث هي معطى متشابك تتلاحم فيه الأسطورة بالواقع، واقع يتميز في كل المجالات، دولة عصرية، تقنية عصرية، موسيقى ورسم وعادات وأفكار عصرية، على هيأة مقولة عامة وضرورة ثقافية. ومن حيث أنها نشأت عن بعض التحولات العميقة في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، فهي تتحقق على مستوى العادات وطرائق العيش، وأنماط الحياة اليومية، وقد تبلغ أحيانا صورة كاريكاتورية في النزعة التحديثية (
Modernisme )، وبما أنها متحولة في أشكالها ومضامينها، في الزمن والمكان، فهي ليست ثابتة ولا تقبل الإحالة عليها إلا من حيث هي منظومة من القيم، وأسطورة. وبهذا المعنى يتعين كتابتها بحروف بارزة تماما.
        وبما أنها ليست مفهوما يصلح كأداة للتحليل، فإنه ليست هناك قوانين للحداثة، بل فقط معالم للحداثة. ليست هناك أيضا نظرية في الحداثة، بل منطق للحداثة، وإيديولوجيا للحداثة. ومن حيث أنها أخلاقية مقننة للتغير فهي تتعارض مع الأخلاقية المقننة للتقليد. لكنها تحترس مع ذلك من كل تغير جذري، وتلك هي "تقاليد البحث عن الجديد". إن الحداثة من حيث أنها مرتبطة بأزمة تاريخية، وأزمة بنية. ليست إلا عرضا لهذه الأزمة. وهي لا تحل هذه الأزمة بل تعبر عنها بطريقة عامضة وبهروب مستمر إلى الأمام. فهي تلعب دور فكرة قوية. ودور إيديولوجيا سائدة متسامية بتناقضات التاريخ إلى مفعولات الحضارة. فهي تجعل من الأزمة قيمة وأخلاقا متناقضة. ومن حيث أنها فكرة تتعرف فيها الحضارة على ؟؟؟  فهي تضطلع بدور ووظيفة تنظيم ثقافي. وتلتحق -من ثمة خلسة- بالتقليد.
منشأ الحداثة        إن تاريخ لفظ حديث أقدم من تاريخ مصطلح "الحداثة". ففي كل سياق ثقافي يتعاقب كل من القديم والحديث تعاقبا ذا دلالة. لكن مع ذلك لا توجد الحداثة، في كل مكان باعتبارها بنية تاريخية وجدالية تعبر عن التغير والأزمة. وهذه الأخيرة لا يمكن مشاهدتها إلا في أوروبا ابتداء من القرن السادس عشر، ولا تأخذ معناها الكامل إلا ابتداء من القرن التاسع عشر.
        النهضة: تعتبر الكتب المدرسية أن اكتشاف أمريكا من طرف كريستوف كولومبوس هو بداية العصور الحديثة التي تلت العصور الوسطى. أما اختراع المطبعة، واكتشافات غاليلي. فهذه وقائع تفتتح النزعة الإنسانية الحديثة الخاصة بعصر النهضة. فعلى مستوى الفنون، وخاصة على مستوى الأدب، ستتطور الخصومة بين القدماء والمحدثين لتبلغ ذروتها في القرنين
17 و 18 . كما أن الأصداء العميقة للانقسام حول الحداثة قد ترددت في المجال الديني: وذلك في حركة الإصلاح الديني، (نشر (Luther ) في ويتنبرغ أطروحاته الخمسة والتسعين في 31 أكتوبر 1517 ) والقطيعة التي أحدثتها بالنسبة للبلدان البروتستانتية. لكن أيضا بانعكاساتها على العالم الكاثوليكي (اجتماع ترنت 1563-1545 ) ولن يأخذ اللفظ قوة إلا في البلدان ذات التقليد التليد، كالبلدان التي حافظت على التقليد الروماني وطقوسه وعاداته مع تجديد هذه التقاليد تدريجيا، ليس للحديث عن الحداثة أي معنى عندما يتعلق الأمر ببلد دون تقاليد وتراث، ودون عصور وسطى كالولايات المتحدة الأمريكية، وعلى العكس من ذلك فإن للتحديث تأثيرا قويا على بلدان العالم الثالث، التي هي بلدان ذات ثقافة تقليدية.
        إن الالتقاء الذي حدث في البلدان، التي مستها النهضة الكاثوليكية، بين نزعة إنسانية علمانية ودهرية وبين طقوس دنيوية من الأشكال والعادات في العالم الكاثوليكي. يالاءم أكثر مع تعقد الحياة الاجتماعية والفنية الذي يقتضيه تطور الحداثة من مجرد تحالف العقلانية والنزعة الأخلاقية في الثقافة البروتستانتية. إذ أن الحداثة ليست فقط هي واقع الانقلابات التقنية والعلمية والسياسية الحادثة منذ القرن السادس عشر، بل هي أيضا لعبة الرموز والعادات والثقافة، هذه اللعبة التي تعكس التحولات في البنية على مستوى الطقوس والتهيئ الاجتماعي.
القرنان السابع عشر والثامن عشر:
        خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر أرسيت الأسس الفلسفية والسياسية للحداثة: الفكر الفرداني والعقلاني الحديث الذي يمثله ديكارت. وفلسفة الأنوار: الدولة الملكية المركزية بتقنياتها الإدارية التي تلت النظام الإقطاعي: أسس العلم الفيزيائي والطبيعي التي أنتجت الآثار الأولى لتكنولوجيا تطبيقية (الموسوعة). ومن الناحية الثقافية فإن هذه الفترة هي فترة الدهرنة الشاملة للفنون والعلوم (...) لم تصبح الحداثة بعد نمط عيش (إذ لم يكن اللفظ قد وجد بع). بل أصبحت فكرة (مرتبطة بفكرة التقدم). اكتسبت مباشرة  ؟؟؟؟  بورجوازية ليبرالية لن تكف عن الالتصاق بها، إيديولوجيا، إلى الآن.
الثورة الصناعية والقرن العشرون:        لقد أقامت ثورة
1789 الدولة البورجوازية الحديثة، الممركزة والديمقراطية، والأمة بنظامها الدستوري، وتنظيمها السياسي والبيروقراطي. فأدخل التقدم المستمر للعلوم، والتقنيات، والتقسيم العقلاني للعمل الصناعي، في الحياة الاجتماعية، بعد التغير المستمر وتفكك العادات والثقافة التقليدية. وفي الوقت نفسه أدخل التقسيم الاجتماعي للعمل انقسامات سياسية عميقة، وبعدا جديدا يتمثل في الصراعات الاجتماعية، والأزمات التي ستتوالى عبر القرنين التاسع عشر والعشرين.
        إن هذين المظهرين الأساسين، اللذين سينضاف إليهما النمو الديمغرافي، والتمركز الحضري، والتطور الهائل لوسائل الاتصال والإعلام، يطبعان، بصورة حاسمة، الحداثة كممارسة اجتماعية وكنمط حياة قائم على التغير والتجديد، لكن أيضا على القلق، وعلى عدم الاستقرار، وعلى التعبئة الدائمة، والذاتية المتحركة، والتوتر والأزمة، كما تظهر الحداثة أيضا، كتصور مثالي وكأسطورة. وبهذا المعنى فإن تاريخ ظهور اللفظ ذاته أمر ذو دلالة: إنها الفترة التي أخد فيها المجتمع الحديث يفكر في ذاته من حيث هو كذلك، وأخذ يتأمل ذاته من خلال ألفاظ الحداثة. وهكذا أصبحت الحداثة قيمة متعالية، ونموذجا ثقافيا وأخلاقيا، وأسطورة مرجعية حائرة في كل مكان، ومقنعة جزئيا للبنيات والتناقضات التاريخية التي ولدتها.
منطق الحداثة:أ- مفهوم تقني-علمي
        إن التطور الهائل، وخاصة منذ قرن، للعلوم والتقنيات، والتطور العقلاني والنسقي لوسائل الإنتاج، ولتسييرها وتنظيمها، يسم الحداثة بكونها عصر الإنتاجية، تكثيف العمل الإنساني والسيطرة الإنسانية على الطبيعة، اللذين اختزلا معا إلى مجرد قوى منتجة، وإلى خطاطة الفعالية والمردودية القصوى. وذاك هو القاسم المشترك بين كل الأمم الحديثة. وإذا لم تكن تلك الثورة، في القوى المنتجة قد غيرت الحياة، لأنها تترك علاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية دون تغيير، فإنها على الأقل عدلت ظروف الحياة بين جيل وآخر، وهي  ؟؟؟؟  اليوم تحولات عميقة في الحداثة، الانتقال من حضارة العمل، والتقدم إلى حضارة   ؟؟؟؟  والتسلية. إلا أن هذا التحول ليس جذريا: فهي لا تغير من الغائية الإنتاجية، ومن نفس الزمن إلى   ؟؟؟ . ومن الضغوط التنبؤية والإجرائية التي تظل هي الإحداثيات  ؟؟؟؟  للأخلاق المعاصرة للمجتمع الإنتاجي.
إيقاع الأعمال والاحتفالات، هو زمن الإكراه الإنتاجي. فالزمنية البيروقراطية تسود حتى الوقت الحر، وعلى وقت التسلية.
        المظهر الخطي: الزمن المعاصر، ليس زمنا دائريا، بل هو زمن يتطور وينمو حسب خط الماضي-الحاضر-المستقبل، وفق مصدر وغاية يتوخاها. يبدو أن التقليدي متمركز على الماضي بينما الحداثة متمركزة على المستقبل، لكن الحداثة وحدها هي التي تعكس ماضيا في الوقت نفسه الذي تعكس مستقبلا، وفق جدلية خاصة بها.
        المظهر التاريخي: لقد أصبح التاريخ، وخاصة منذ هيجل، هو الهيئة المهيمنة للحداثة. فهو في الوقت نفسه صيرورة واقعية للمجتمع، ومرجع متعال، يفسح المجال أمام الاكتمال النهائي. فالحداثة تفكر في ذاتها تفكيرا تاريخيا، لا تفكيرا أسطوريا.
        إن الحداثة، من حيث هي كم قابل للقياس، وغير قابل للتراجع، وتعاقب آنات محدودة أو صيرورة جدلية، قد أفرزت -على أية حال- زمنية جديدة تماما، وهو بعد حاسم. وصورة لتناقضات الحداثة. فما يميز الحداثة، داخل هذا الزمن غير المحدود، والذي لا يعرف الاستمرار والدوام، هو شيء واحد: إنها تود أن تكون دوما "معاصرة"، أي تآنيا وجدانيا. فهي بعد أن أعطت الامتياز لبعد التقدم والمستقبل، يبدو أنها تختلط اليوم أكثر فأكثر مع ما هو راهن. ومباشر ويومي، وهو الوجه الآخر للديمومة التاريخية ليس إلا.
بلاغة الحداثة
تجديد وطليعة
        تعبر الحداثة، في مجال الثقافة، والأخلاقيات -بنوع من التعارض الشكلي مع التمركز البيروقراطي والسياسي، لكن في علاقة وطيدة معه، وبنوع من إضفاء التجانس على أشكال الحياة الاجتماعية- تعبر عن نفسها بتمجيد الذاتية العميقة، والأهواء، والتفرد، والصدق الذاتي، وما هو عابر، وما لا يمكن إدراكه. كما نعبر عن نفسها بتحطيم القواعد  ؟؟؟   الشخصية الذاتية الواعية بنفسها أولا. و"رسام الحياة الحديثة"، لبودلير الواقع على الحدود بين الرومانسية والحداثة المعاصرة. يسجل انطلاق عملية البحث عن الجديد، وعن  ؟؟؟  الذاتية، "وهكذا فهو ذهب، ويجري ويبحث. نعم. يبحث إذن؟ إن هذا الإنسان كما  ؟؟؟  صورته، هذا المنعزل،، والخيال النشيط، المسافر عبر صحراء كبرى من البشر، ؟؟؟  هذا الشيء الذي نستأذن في تسميته بالحداثة.
        ستولد في كل المستويات جمالية القطيعة، والإبداع الفردي والتجديد الموسوم بظاهرة الطليعة كظاهرة سوسيولوجية (وهذه الطليعة ترتبط بميدان الثقافة وكذا بميدان الموضة). وبالتحطيم المستمر للأشكال التقليدية (الأجناس في الأدب، وقواعد الهارمونيا في الموسيقى، وقوانين المنظور والتشكيل في الرسم وللروح الأكاديمية، وبصفة عامة سلطة ومشروعية النماذج السابقة في ميدان الموضة، والجنس والسلوكات الاجتماعية).
وسائل الاتصال الجماهيري:الموضة والثقافة الجماهيرية
        وقد ازدهر هذا الميل الأساسي وتقوى منذ بداية القرن العشرين بواسطة انتشار صناعة الأدوات الثقافية، وانتشار نوع من الثقافة الجماهيرية، والتدخل الهائل لوسائل الاتصال الجماهيري (الصحافة، السينما، الراديو، التلفزيون، الإشهار) كما تزايد الطابع العابر والعرضي للمضامين والأشكال. فالثورات في الأسلوب والموضة والكتابة والعادات لا تحصى. وبتجدرها أكثر فأكثر في تغير المنظور، وفي تحول بصري مستمر، تغير الحداثة معناها. فهي تفقد شيئا فشيئا كل قيمة جوهرية، وكل إيديولوجيا أخلاقية وفلسفية في التقدم. هذه الإيديولوجيا التي كانت هي أساس الحداثة في البداية، لتصبح مجرد جمالية للتغير من أجل التغير. فهي تلخص ذاتها، وتتبلور في بلاغة جديدة، كما تعبر عن نفسها في لعبة منظومة أو عدة منظومات من الرموز. وفي النهاية فإنها تلتحق بالموضة التي هي في الوقت نفسه نهاية الحداثة.
إذ أنها تدخل في إطار تغير دوري، حتى تنبعث من جديد كل أشكال الماضي (العتيقة، الفولكلورية، الخشنة، التقليدية) مفرغة من جوهرها، لكنها تمجَّد كعلامات ضمن مجموعة قواعد، حيث يتعادل التراث والتجديد، القديم والحديث، ويؤثران بالتناوب. وهكذا لم تعد الحداثة تمثل قطيعة فهي تغتذي من بقيا وفتات كل الثقافات، في الوقت نفسه تغتذي فيه بفضلاتها التقنية، أو بغموض كل القيم.
التقليد والحداثة في مجتمعات العالم الثالث        تتجلى السمات المميزة للحداثة، وفواعلها، وإشكاليتها، وتناقضاتها، بمنتهى القوة، في المجتمعات التي يكون فيها تأثيرها التاريخي والسياسي صادما: أي في المجتمعات القبلية، أو المستعمرة سابقا والتقليدية. يعتبر
D.Apter الاستعمار "قوة تحديثية"، أي "نمطا يكسب بواسطته التحديث طابعا شموليا".
        وقد تم تفكيك منظومات التبادل القديمة بظهور النقد واقتصاد السوق. فالمنظمات السلطوية التقليدية، تمحي تحت ضغط الإرادات الاستعمارية، أو البيروقراطيات  ؟؟؟  الجديدة.
        وبسبب غياب ثورة سياسية أو صناعية في العمق، فإن المظاهر التقنية، والأكثر قابلية للنقل، هي التي تمس أكثر المجتمعات التي هي في حالة نمو: مواد الإنتاج، والاستهلاك الصناعي، ووسائل الاتصال الجماهيري. والحداثة تستثمر هذه الموضوعات قبل كل شيء في ماديتها التقنية كمشهد، وليس من خلال عملية العقلنة الاقتصادية والسياسية الطويلة المدى التي نتجت عنها في الغرب.
        ومع ذلك فإن لشظايا الحداثة هاته صدى سياسيا: فهي تسهم في تفكيك نمط العيش، وتسارع بالمطالبة الاجتماعية في التغيير.
مقاومة وخليط        إذا كانت الحداثة قد بدت في مرحلة أولى كقطيعة، فإن التحليل الدقيق الذي قامت به الأنتروبولوجيا السياسية، منذ الحرب العالمية الثانية (بالاندييه، ليش،  ؟؟؟ ، التهاب) يظهر أن الأشياء أكثر تعقيدا مما يبدو. فالنظام التقليدي (القبلي، العشائري، القرابي) يظهر مقاومة عنيفة تجاه التغير، بينما تقيم البنيات الحديثة (الإدارية، الأخلاقية، الدينية) مع التقاليد والثرات تسويات حلول وسطى (
Compromis ). فالحداثة تتخذ فيه دوما صورة انبعاث للتراث. دون أن تتخذ هذه، مع ذلك معنى محافظا (...).
        وهذا شيء مهم: يظهر ميدان الأنتروبولوجيا، أكثر مما يظهر ذلك التاريخ الأوروبي، حقيقة الحداثة، أي كونها ليست أبدا تغيرا جذريا أو ثورة، بل إنها تدخل في علاقة ضمنية مع التراث في إطار لعبة ثقافية رفيعة، وفي حوار يترابط فيه العنصران، ضمن عملية تداخل واختلاط وتكيف. وهكذا تتخلى جدلية القطيعة عن مكانها لدينامية التمازج والتفاعل.
الإيديولوجيات والحداثةالإيديولوجيات كعلامة على الحداثة
        يظهر لنا تحليل المجتمعات التي تحررت من الاستعمار تعبيرا نوعيا آخر عن الحداثة:  ؟؟؟ الإيديولوجيا. فالإيديولوجيات (الوطنية، الثقافية، السياسية) معاصرة لعملية تفكك البنيات القبلية ولعملية التحديث. فهذه الإيديولوجيات، من حيث أنها مستجلبة من الغرب، ومطبوعة بطقوس ومعتقدات تقليدية، تكتسب أهمية البنية الاقتصادية التحتية، وهي موطن  ؟؟؟  والصراع وانقلاب القيم والذهنيات. ويتعلق الأمر هنا بالأحرى ببلاغة الحداثة، التي تحدث غموض تام في مجتمعات يكون من مهمتها فيها التعويض عن التأخر الواقعي، وعن عدم التطور.
        لقد مثل هذه الملاحظات يمكن أن تساعد على تحديد مفارقة الحداثة. فهي تفكك للبنيات وتغير، لكن أيضا التباس وحلول وسطية وتمازجات: الحداثة عبارة عن مفارقة، فهي ليست جدلية. إذا كانت الحداثة نموذجا لمفهوم "حديث" وإذا كانت الإيديولوجيات هي التعبير عن الحداثة، فإن الحداثة ذاتها، دون شك، ليست إلا عملية إيديولوجية واسعة.
إيديولوجيا الحداثة: نزعة محافظة بوساطة التغيير        بهذه الصورة تظهر الحداثة، سواء في الغرب أو العالم الثالث، على أنها محل انبثاق عوامل القطيعة والحلول الوسطى بجانب عوامل النظام وارتساء التقليد. فالحركية الملازمة لها على كل المستويات (الاجتماعية، والمهنية، والجغرافية والزواجية وفي الموضة والتحرر الجنسي) لا تطال فقط سوى جانب التغير المسموح به من طرف النظام، دون أن يتغير النظام كليا. يقول "بالاندييه" عن دول إفريقيا السوداء: "إن المواجهات السياسية تعبر عن نفسها تعبيرا واسعا -لكن ليس فقط- بالنقاش الدائر بين ما هو تقليدي وما هو حديث: وهذا الأخير يبدو خصوصا وكأنه أداة، وليس السبب الرئيسي لهذه الصراعات". وهكذا فإن الحداثة في المجتمعات المتطورة ليست هي التي تعيد رسم وتحديد البنية، ولا التاريخ الاجتماعي: بل هي بالأحرى (في تفاعلها مع الواقع التقليدي) المجال الذي ينبثقان فيه ليتخذا طابعا مقنعا. وهي المجال الذي تذوب فيه جدلية المعنى الاجتماعي في القواعد البلاغية والأسطورية للحداثة.
التباس مكشوف        إن التغييرات التي حدثت في البنيات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والنفسية هي العوامل التاريخية الموضوعية للحداثة، لكنها في حد ذاتها لا تشكل الحداثة. بل إن هذه ستعرِّف نفسها بالأحرى على أنها إنكار لهذه الغييرات البنيوية، أو على الأقل على أنها إعادة تأويل لها بأسلوب الذهنية السائدة، ونمط الحياة، والمعيش اليومي.
        ليست الحداثة هي الثورة التكنولوجية والعلمية، بل هي مجال اندراج هاته في مشهد الحياة الخاصة والاجتماعية، وفي مجال ما هو يومي كما تحدده وسائل الإعلام، وفي نماذج الحياة الاستهلاكية والطمأنينة البيئية أو غزو الفضاء. ليس العلم ولا التقنية ذاتهما "حديثين". بل إن مفعول تأثير العلم والتقنية هما اللذان يكتسبان هذه الصفة. أما الحداثة، فهي، رغم تأسيسها على الظهور التاريخي للعلم، فإنها لا تحيا إلا على مستوى أسطورة العلم.
        ليست الحداثة هي العقلنة، ولا الاستقلال الذاتي للوعي الفردي، الذي هو مع ذلك أساسها. إنها بعد فترة الظهور الاحتفالي للحريات وللحقوق الفردية، التمجيد الناتج عن ؟؟؟  فعل ثانية مهددة كليا بالمجانسة التي تتهدد الحياة الاجتماعية كلها، إنها إعادة تدريب  ؟؟؟  الذاتية المفقودة في منظومة من "التشخيصات"، في مفاعيل الموضة والتطلع الموجه.
        ليست الحداثة هي جدلية التاريخ: بل إنها هي الحدثية واللعبة الدائمة لما هو راهن وكونية الأحداث المتنوعة بواسطة وسائل الاتصال الجماهيرية.
        ليست الحداثة هي امتساخ كل القيم، بل إنها التفكك العام لكل القيم القديمة دون تجاوزها، إنها التباس كل القيم والاختلاط المعمم. لن يعود هناك لا خير ولا شر، لكننا مع ذلك لم نعد "خارج الخير والشر".
        ليست الحداثة هي الثورة، رغم أنها ترتبط بثورات صناعية وسياسية وإعلامية، والثورة في وسائل العيش الرغيد...إلخ.
        وكما يقول هنري لوفيفر في كتابه "مدخل إلى الحداثة": "داخل هذا العالم المقلوب. وغير الواقف على رجليه، تنجز الحداثة مهام الثورة: تجاوز الفن والأخلاق والإيديولوجيات... ويمكن أن نضيق إلى ذلك الحركية، والوفر، وأشكال التحرر المختلفة. لكنها تنجزها على شكل ثورة دائمة في الأشكال، أي في لعبة التغير، وفي النهاية في دائرة تنغلق فيها من جديد الثغرة المفتوحة في عالم التقاليد.
ثقافة اليومي:        كانت التقاليد تعيش على الاستمرار والتعالي الحقيقي، أما الحداثة فبإحداثها للقطيعة، وعدم الاستمرار، قد أعادت إغلاق نفسها في دائرة جديدة. فهي قد فقدت تلك الشحنة الإيديولوجية الدافعة، المرتبطة بالعقل والتقدم، وأخذت تختلط شيئا فشيئا باللغة الشكلية للتغير. بل حتى أساطيرها أخذت تفلت منها وتفر: فقد أخذت الحداثة تتميز تدريجيا بالتعالي المجرد لكل السلط. فالحرية فيها شكلية، والشعب يصبح جمهورا، والثقافة تغدو موضة. وبعد أن كانت الحداثة هي دينامية التقدم أصبحت بالتدريج، وببطء، حركية العيش الرغيد.
        وأسطورتها تعني التجرد المتعاظم للحياة السياسية، والاجتماعية، التي تختزل الحداثة في إطارها -شيئا فشيئا- لتصبح مجرد ثقافة لما هو يومي.
"الموسوعة الشمولية" Encyclopedia Iniversalis الكرمل العدد 37-36
                                                       ترجمة: د. محمد سبيلا



بوصلة نوبل للسلام هذا العام تتوجه إلى الصين مجددا.

الأحد، 5 ديسمبر 2010

الحجاج و الأشكلة

مقالان الأول منهما حول الحجاج و الثاني حول الأشكلة 
 http://www.4shared.com/file/QyTJ1IWM/largumentation.html

النمذجة

         مقالان حول النمذجة : الأول للأستاذ عبد القادر بشتة بعنوان  les modèles scientifiques en philosophie  الفكرة من اقتراح الأستاذ رشيد الفطناسي               
 و الثاني للباحث الفرنسي  Angel cremer marietti بعنوان la theorie des modeles
 http://www.4shared.com/get/Wc_sqxST/modlisation.html
المزيد من المقالات حول النمذجة بالعربية و الفرنسية  تحت هذا الرابط http://www.4shared.com/file/xIiOq9Gn/modelisation__en_franais_et_ar.html


  

  


الخميس، 2 ديسمبر 2010

تعريف بمؤلف: "مستوى الروح, لماذا المساواة أفضل للجميع

اللامساواة وتشويه النفس الاجتماعية
تقديم: د.علي فخرو * البحرين

في كتابيهما "مستوى الروح, لماذا المساواة أفضل للجميع" يُبين
الكاتبان ريتشارد ولكنسون وكيت بيكيت العلاقة الحميمة بين مدى انتشار عدم العدالة في توزيع الثروة في المجتمعات وبين مدى انتشار العلل الصحية والنفسية والاجتماعية في تلك المجتمعات. في المجتمعات التي تتسع الهوة فيها بين الاغنياء والفقراء يتراجع فيها معدل عمر الانسان بحوالي عشر سنوات وترتفع فيها نسبة الامراض النفسية وعلى الاخص القلق والكآبة وتنتشر فيها التشوهات الاجتماعية مثل ظواهر العنف والجريمة والادمان والانتحار وضعف الحراك الاجتماعي وضعف ثقة الناس في بعضهم بعضا.لا يهم أن تكون تلك المجتمعات من العالم الأول المتقدم أو أن تكون من العالم الثالث المتخلف ولا يهم أن يكون معدل دخل الفرد أربعين ألف دولار أو لا يزيد على العشرة ألاف دولار, فالقضية الأساسية التي يطرحها الكاتبان هي الترابط الوثيق بين ظاهرة عدم المساواة في المجتمعات وبين ظاهرة انتشار تلك العلل والإمراض والتشوهات, إما السبب فيكمن في أن اتساع الهوة بين الدخل في المجتمعات يؤدي إلى قلقلة وإضعاف ما يسميه الكاتبان "النفس الاجتماعية" وهي النفس التي تحيا وتنتعش بحصول الانسان على مستوى معقول من حاجاته المادية, وعلى شعوره بقيمته الشخصية المساوية للآخرين, وعلى عدم شعوره بالنقص أمام الآخرين. وهذه كلها بالطبع مرتبطة بمستوى دخل الفرد مقارنة بدخل الآخرين, وبعدم شعور الفرد بان مسكنه ومدرسته التي يتعلم فيها ومركزه الصحي الذي يعالج فيه وناديه الرياضي الذي ينتمي إليه وأماكن رفاهيته التي يرتادها هي جميعا في مستوى الحضيض المذل الهادر لكرامة الانسان.منذ قرون طويلة عرف الفلاسفة والمصلحون وعرفت الديانات مشكلة اللامساواة البشرية, وهذه الدراسة تعزز وجود نتائجها الكارثية على الفرد والجماعة. ويوم طرحت الثورة الفرنسية شعاراتها الثلاثة, الحرية والأخوة والمساواة, كان جليا بأنه من دون المساواة سيصبح شعار الحرية وشعار الأخوة كلمتين عاجزتين وفارغتين من أي محتوى قادر على الفعل في الواقع وتغييره.مناسبة إبراز نتائج تلك الدراسات الاجتماعية, العاكسة نفسها على السياسة بقوة, هو ما سمعناه وما نسمعه من تفاخر بين دول البترول العربية وكبار القوم فيها بشأن معدلات دخل الفرد في هذه الدول, ويعتقد هؤلاء وتردده أبواقهم الإعلامية صباح مساء, بأنه يكفي أن يقوم وزراء المالية بقسمة دخل البترول على عدد السكان ويخرجوا نتائج مذهلة لمعدلات دخل الأفراد حتى يصبحوا في عداد بلدان التقدم أو العدالة أو التنمية أو مجتمعات الرفاهية. والواقع أن هذه قسمة ضيزى, فمعدل دخل الفرد, من دون وجود توزيع عادل للثروة, لا يمثل ضمانة لمجتمع سليم متعاف.يستطيع الانسان أن يخمن بأن ظواهر العلل والأمراض والتشوهات, عند الأفراد وفي المجتمعات, التي يعرضها الكاتبان متفشية في بلدان اليسر العربية, وفي جميع الأحوال فإنها تحتاج لمن يدرسها, لكن عدم عدالة توزيع الثروة بادية كالشمس الساطعة. قصور وبيوت إسكان متواضعة, تعليم خاص مكلف واستقلالي وتعليم عام يتراجع, مستشفيات خاصة باهظة التكاليف وخدمات حكومية مزدحمة, حياة بذخ أسطورية وحياة كفاف مخجلة, عليه قوم يستأثرون بكل رموز الوجاهة والقوة والاحترام وجماعات مسحوقة في أسفل السلم الاجتماعي تشعر بالنقص والهوان.الدولة الرعوية توزع المغانم على أسس لا تمت بصلة للإنتاج والكفاءة والجهد, وإنما على أسس الولاءات والاستزلام والقرابات العائلية والقبلية والمذهبية, والنتيجة إن مجموعة صغيرة تشعر بالثقة التامة في نفسها ومكانتها, بينما تبقى مجموعة كبيرة كسيرة النفس الاجتماعية بما تأتي به من علل ومصائب.عدم المساواة تقود إلى مكانة اجتماعية متدنية, وهذه بدورها تلد كل التشوهات التي ذكرنا, فليراجع المسؤولون في بلدان البترول حساباتهم ومفاهيمهم, ذلك ان اللامساواة هي رديف الظلم, بينما المساواة هي رديف العدالة. من هنا أصبحت قضية اللامساواة في توزيع الثروة احد أهم القضايا التي تُطرح بقوة في عصر العولمة الذي نعيشه, وهي مرشحة ان تغير الفكر السياسي في العالم.
                                  انتهى ـ