فالعَلمانية (بفتح العين) يقابلها في اللسان الفرنسي sécularisme والعلمانية (بكسر العين) scientisme واللائكية Laïcité.
أما العَلمانية (بفتح العين) فتعود إلى أصلٍ هو العَالم (بفتح اللام) الدنيوي، ومنها العلمنة sécularisation من علمن séculariser ذي الجذر اللاتيني بمعنى siècle (قرن) إذن دلالة الزمان الواقعي، والحياة الوضعية. وتتفق العَلمانية (بفتح العين) والعِلمانية (بكسر العين) في الوقوف على أرضية التطور العلمي والترقي الذهني للإنسان، وإذا كانت الأولى مفهوما قديما عريقا على صلة بالمنازع الفلسفية المادية وبمسار السيطرة على الطبيعة واكتشاف قوانينها وتسخيرها لخدمة البشر، فإن الثانية لم تزدها إلا رسوخا بما تحقق للعلوم من فتوح متتالية قلصت سلطان الجهل وأتاحت إحاطة أكبر بظواهر الكون وفهما أعمق للأديان وعقلية أوسع لإدارة شؤون الاجتماع البشري.
وتعود اللائكية إلى الأصل اللاتيني "لايكوس" laikos بمعنى ما هو من مشمولات أنظار الشعب لا أنظار رجال الدين (الإكليروس) وما هو مستقل عن الهيئات الدينية (دولة لائكية، قضاء لائكي، تعليم لائكي... أي منظم وفق قواعد اللائكية وقيمها مع وجوب ملازمة الحياد على الصعيد العقيدي).
وحسب ما انتهى إليه الباحث فتحي القاسمي في أطروحته "العَلمانية وطلائعها في مصر" فإن اللائكية تجسم الجانب العملي والسياسي للعلمانية" وأنها "أصبحت في القرن التاسع عشر تيارا فكريا قويا وموجة ذهنية نشيطة استقطبت الاهتمام وأصبحت لها نواديها ومؤلفوها المدافعون عنها" (ص35)ـ....
وما من شك في أن المشهد الدامي لما يحدث في العراق وفلسطين، وبلدان عربية وإسلامية أخرى، من تناحر طائفي وقتل على الشبهة المذهبية وتقتيل بالجملة لأبناء هذه الطائفة أو تلك سواء داخل مواطن تعبّدها أو مواطن تواجدها في الحياة العامة، هو الذي كان له دور كبير في العودة بموضوع الحل العلماني، إلى الواجهة، وفي اعتباره، عند عدد متزايد من أهل النظر، الأفــق الوحيد ما دام ينبني على الفصل بين الشأن المعتقدي، وهو فردي وخاص، والشأن السياسي، وهو مجتمعي وعام، وما دام بالتالي كفيلا بوضع حد للاقتتال الطائفي ولمصادرة أبسط الحريات واستعباد الأرواح فضلا عن الأبدان. فبلاد كالعراق أو فلسطين أو سوريا أو السودان أو لبنان، أو غيرها من بلاد الشرق والغرب، لا يستوي أمرها إلا بإقرار العلمانية في تنظيم العلاقة بين الدين والدولة، ما دامت بلادا متعددة الأديان والعقائد والطوائف، لا يجوز لطرف واحد أن يبسط نفوذه ويفرض سلطانه على بقية الضمائر بالقوة المولدة للانفجار، وحمامات الدم. بل إن عدم الإذعان للحل العلماني على الواجهة الفلسطينية، مثلا، كان سببا حتى الآن في تشتيت الصف السياسي والتنظيمي للحركة الوطنية الفلسطينية وشرذمتها إلى رايات مذهبية وطائفية متعددة تعمل كل منها لحسابها الخاص، وتأبى التنازل عن نرجسيتها الفصائلية لحساب الحركة، بما أضعف مردود المقاومة ووفر على المحتل متاعب جمة. لكن ولئن كان في موروث الدولة العربية والإسلامية عناصر علمانية هي التي شكلت قاعدة للخلق والإبداع والتطور الحضاري فإن مهمة إرساء النظام العلماني اليوم، باعتباره حجر زاوية في الدولة الديمقراطية الحديثة، لا نراها منتظرة من أنظمة الاستبداد والفساد والعمالة القائمة حاليا، ولذا فإن استكمال هذه المهمة التاريخية مرتبط بالتحولات الديمقراطية الوطنية التي على قوى التغيير الحقيقي أن تنجزها والتي نعيش مخاضها العسير راهنا. وليس معنى ذلك أن على هذه القوى انتظار تلك الساعة الفاصلة وتعليق تحركاتها، بل المطروح هو العمل الدؤوب والنضال اليومي من أجل تقريب تلك الساعة ومراكمة المكاسب مهما كانت جزئية وعدم الاستسلام لتيار الردة.
لكن ذلك لا يكفي لكي يجعل من العلمانية قناعة واسعة النفوذ في المجتمع خصوصا أمام مساعــي التشويه التي ما انفك شيوخ التكفير يلحقونه بها، وأمام الأحكام المسبقة ذات الخلفية التكفيرية التي زرعتها الدولة القائمة عبر المؤسسة الدينية وعلى منابر المساجد والجوامع، وعبر المؤسسة التربوية والتعليمية والثقافية والقيم السائدة ذات الحمولة الإقطاعية والعبودية في جانب كبير منه
عن صحيفة البديل ـ بتصرف ـ ماي 2008