الأحد، 28 نوفمبر 2010

رهانات الفلسفة العربية المعاصرة


محمد المصباحي
يضم هذا الكتاب حصيلة أشغال مؤتمر 'رهانات الفلسفة العربية المعاصرة'، الذي انعقد بكلية الآداب بالرباط ما بين 20-21 تشرين الثاني/نوفمبر 2009 (بالتعاون مع مؤسسة كونراد أديناور). وكانت الغاية من دعوة نخبة من الفلاسفة العرب الذين ينتمون إلى مختلف الحساسيات الفكرية للالتئام حول موضوع الرهانات، ممارسة الفلسفة، لا تاريخ الفلسفة، وإن كنا نعتقد بأن تاريخ الفلسفة جزء لا يتجزأ من الفلسفة نفسها. وبالفعل، بالرغم من أن الكلام بضمير المتكلم لم تَجْرِ به العادة عندنا في الغالب، فقد أبانت جل الأبحاث الملقاة في المؤتمر عن إرادة الجرأة على التفلسف.
إن الرغبة في ممارسة جنس القول الفلسفي في العالم العربي اليوم تحركها على الأقل محركات ثلاثة. أولها كون اللغة العربية استطاعت، عن طريق احتكاكها باللغة الفلسفية اليونانية في السابق، أن تختزن تجربة واسعة وعميقة بالمفاهيم النظرية والأسئلة الجريئة حول الوجود والأخلاق والسياسة مكّنتها من أن تخلق لنفسها لغة فلسفية غنية لم تتأت لكثير من اللغات. وهذا الرصيد، الذي هو بمثابة ملكة فلسفية راسخة، أهّل اللغة الفلسفية العربية، في الأزمنة الحديثة، لأن تقوم بمغامرة جديدة قيد الإنجاز مع اللغات الفلسفية الأوروبية الحديثة لتحديث جهازها المفاهيمي وأدواتها المنهجية والرؤيوية. والمحرك الثاني يتمثل في كون الفلسفة عرفت في اللغة العربية تجارب فكرية غنية كان لها صدى في التاريخ، تراوحت بين الازدهار والامتحان؛ فكان ازدهارها مؤشرا على وصول الحضارة العربية الإسلامية إلى مستوى عال من العالمية الفكرية، تساوقت مع عالمية دينية كانت شرط الوجود البشري في ذلك الزمان؛ كما كان امتحانها ومحاصرتها بمعية العلم والأدب علامة على أن الحضارة العربية الإسلامية مالت إلى الأفول. مما يعني أن رهان الحداثة في العالم العربي اليوم مرتبط ارتباطا جوهريا بعودة قوية وجريئة لّلغة العربية إلى الفلسفة. وهذا ما حاولت أبحاث هذا الكتاب أن تبرهن عليه بأكثر من كيفية. العامل الثالث الذي حرك الرغبة في ممارسة القول الفلسفي في العالم العربي، هو أن رهان تحديث العالم العربي اقتصاديا وسياسيا وإداريا واجتماعيا وحقوقيا ودينيا وفنيا... لا يمكن أن ينتقل إلى مرتبة الحداثة، ما لم تَسْرِ في التحديث روح الفلسفة، محوِّلة إياه إلى ملكة راسخة، أي إلى حداثة، هي عبارة عن حساسية تجاه الزمن الذي نحيا فيه من أجل التفاعل الخلاّق معه.
وعملاً بالدور الأساسي الذي حدده بول ريكور للفيلسوف أساساً في 'فهم الرهانات'، نعتقد بأن الرهان الأكبر للفلسفة في عالمنا العربي، هو أن يحصل لها الوعي بأنها لن تستطيع التأثير في الفضاء العمومي لدفعه للانخراط في مغامرة الحداثة بكل ما تتطلبه من همَّة ومخاطرة، ما لم تعمل هي نفسها على تغيير نفسها بنفسها بتحديث أسئلتها ولغتها وآفاقها، أي بتحديث رهاناتها. وهنا لا يسعنا إلا أن نُبدِي شيئا من الغيرة حيال تجارب الشعراء والروائيين والعلماء والتقنيين والاقتصاديين والسياسيين العرب الذين يغامرون يوميا سعيا وراء تحقيق حداثاتهم كل بطريقته الخاصة. فلماذا لا نقوم، نحن الفلاسفة، أيضا بالمغامرة الخاصة بنا لتحقيق حداثتنا الفلسفية، دون انتظار لحظة المغيب، لحظة انبثاق الفلسفة؟ لعل ذلك رهين بالتركيز على قراءة الواقع العربي اليومي المتجدد، وبالعمل على خلق مجال مشترك حي وحقيقي للقراءة والحوار والنقد والاعتراف المتبادل.
إننا بهذا لا ندعو إلى ضرب من الغلو في التحمس لفلسفة عربية منغلقة على ذاتها، على غرار ما يدعو له البعض من أهلنا ومن بعض الأمريكيين اللاتينيين أو الأفارقة أو الآسيويين، وإنما نقول بأن النقاش الفلسفي داخل الحقل العربي هو الذي سيسمح لنا بإمكانية حقيقية للنقاش مع المجتمع الفلسفي العالمي، وذلك عندما نقدم قيمة مضافة نابعة من الأسئلة الخاصة التي نطرحها، مع أخذ الاحتياط الكامل من الوقوع في محذور تحويل الفلسفة إلى إيديولوجية غايتها تغيير الواقع حسب آرائها المنحازة، لا حسب مقتضى الشيء في ذاته. إن المحافظة على غريزة الحرية تبقى شرطا قَبْليا لممارسة الفلسفة حتى لا تُسَخّر من قِبل رجال السياسة أو الدين أو المال، أي حتى لا تتحول الفلسفة إلى إيديولوجيا أو علم كلام.
وبعيدا عن أية مبالغة، من واجبنا أن نعترف بأن الفكر الفلسفي العربي بدأ أخيرا يتخلص من عقدة لسانه، منطلقا في مغامرة لا حدود لها من الإبداع والمناقشة بلغة وأسئلة جديدة مع أنداده من الفلاسفة في أنحاء العالم، خصوصا بعدما أصبحت الفلسفة تميل اليوم نحو لغة السرد والحكاية. فمن يقف على أعمال الفلاسفة العرب المعاصرين سيكتشف أن كتاباتهم لا تقل عمقا وابتكاراً عن أقرانهم الأوروبيين، لأنها كانت ثمرة جهد ومكابدة. نعم، يجب أن نعترف بأن قاموسنا الفلسفي ما زال غير قادر على إسعافنا في التعبير عن كل ما يخالجنا من أفكار وإشكالات ورؤى جديدة. بيد أننا نعتقد أن اللغة العربية ما زالت تحمل في أحشائها إمكانيات هائلة للتوليد والابتكار والتكيف مع القضايا والموضوعات الجديدة.
الفلسفة بطبيعتها مشاغبة، تحاول بأسئلتها أن تتجاوز الثوابت والخطوط الحمراء، بما فيها الخطوط الحمراء التي تضعها الفلسفة لخطابها على نحو ضمني في غالب الأحيان. فأحيانا تضع الاستنارة، أو الحرية كخط أحمر، لكنها سرعان ما تنقلب عليهما، لكي ترفع في كل مرة سقف تطلعاتها إلى درجة يمكن اعتبار عودة ظاهرة الغزالي من جديد في زماننا هذا، أي ذلك الفيلسوف المُبَرقع، الذي يأكل من فاكهة الفلسفة بكل حرية ويلعن كل مَن يأكلها، من باب مكر الفلسفة، التي تريد البقاء أحيانا من خلال أضدادها.
لم يكن الغرض من اللقاء الذي أثمر هذا الكتاب إثبات أو نفي وجود فلسفة عربية اليوم، أو تأكيد هويتها وأصالتها قياسا على فلسفات الأمم الأخرى، ولكن كان القصد أن ننظر فيما يمكن أن تُسهم به الفلسفة بتواضع، مع غيرها من المباحث الفكرية والعلمية والأدبية والفنية، لإنقاذنا من الكارثة الثقافية والوجودية التي تهددنا كل يوم منذ دخولنا زمن الهزائم المتتالية. إننا في العالم العربي نعيش تراجيديا حقيقية، استفحل أمرها إلى حد أصبح يبعث على القنوط واليأس، الأمر الذي يجعلنا في أمَسّ الحاجة إلى نظرة مجردة وشاملة تذهب بنا توّاً إلى جوهر الأمور، أي إلى نظرة فلسفية تستطيع أن تعالج حالة الإنسان الذي لا يود أن يعترف بإنسانيته، بحريته، بقدرته على العيش مع الآخرين. إننا إذا استطعنا أن نجعل من التأويل أداةً لتغيير نظرة هذا الإنسان إلى نفسه وإلى العالم، سنكون قد ربحنا أحد الرهانات الكبرى للفلسفة العربية المعاصرة.
يضم هذا الكتاب خمسة أبواب؛ يتطرق الباب الأول منها إلى رهانات الفلسفة العربية السياسية المتصلة بموضوعات الحضارة والمقاومة والمصالحة السياسية والعولمة والحرية. وتعالج أبحاث الباب الثاني الرهانات الفلسفة الدينية التي تخص الإصلاح الديني والعلمانية وشروط إمكان قيام فلسفة للدين في الفكر الفلسفي العربي المعاصر. وتعكف مقالات الباب الثالث على النظر في رهانات مجتمع المعرفة والصورة والأخلاقيات التطبيقية والتواصلية. وحاولت أبحاث الباب الرابع، رهانات حاضر الفلسفة العربية، التفكير تفكيرا نقديا في مفاهيم الرهان والتبرير والحاضر والترجمة. أما أبحاث الباب الخامس فقد تناولت دلالة ومدى حضور الفلسفة الغربية في الثقافة العربية المعاصرة، وهل من المشروع أن تنعت هذه الأخيرة بأنها عربية، بينما اختصت مقالتان في النظر في الفلسفة المغربية.