الأربعاء، 17 أغسطس 2011

التعليم و الديمقراطية


هذا هو الجزء الاول من نص المداخلة التي قدمتها في حلقة النقاش حول التعليم و الديمقراطية التي نظمها نادي الكلمة الحرة يوم الإربعاء 20 جويلية 2011 بفضاء دار الثقافة .            
مقدمة
  "تمثل التربية أعظم و أعوص مشكل يمكن أن يطرح على الإنسان."إيمانوال كانط                                      
قد يذهب في ظن البعض أن الاهتمام بمسألة التعليم و الديمقراطية من قبل الأحزاب و مكونات المجتمع المدني غير مهمة اليوم بالنظر إلى واقع تكوين الأحزاب و الجمعيات و النوادي في بلادنا التي تعاني أصلا من عزوف القوى الحية من الشباب و الكهول على المشاركة في النقاشات العامة,فالأحزاب الناشطة حديثا منصرفة اليوم إلى مسألة التعبئة السياسية لمواجهة قوى الثورة المضادة التي لا تزال تعيق مرحلة التحول الديمقراطي,هنا عند هكذا أمر يجب أن نتوقف كثيرا.إذ لا يجب على الأحزاب السياسية و مكونات المجتمع المدني أن تتأخر عن مصارعة قوى الثورة المضادة في مجال حيوي مثل التربية و التعليم الذي تصنع فيه العقول و يتشكل فيه مواطن المستقبل.فإذا تربى المتعلم على التفكير و النقد و الديمقراطية فقد كسبت رهانا وطنيا و إنسانيا لا يضاهيه رهان.
 تتفق قوى الثورة تقريبا على أن من بين أهداف ثورة شعبنا المجيدة تحقيق الديمقراطية.,و انطلاقا من الوعي بهذا الهدف نتساءل اليوم عن دور التعليم و التربية في تحقيق هذا المطلب المنشود.
نحن لدينا قناعة تفيد أن الديمقراطية ليست مجرد نظام حكم بل هي قيمة وممارسة نتعلمها و نتربى عليها و ليست معطى جاهزا  بل هي مكسب صعب المنال
ـ من أجل تحديد دور التعليم و التربية في تحقيق الديمقراطية من الناحية النظرية لا بد في مرحلة أولى من تحديد دقيق لمعاني التعليم و التربية و الديمقراطية .كما نحدد في مرحلة موالية فضاءات تعلم الديمقراطية و ممارستها,أما في القسم التطبيقي فسأعود فيه إلى القانون التوجيهي للتعليم لسنة 2002 و علاقته بالممارسة الفعلية صلب المؤسسات التربوية في بلادنا.لأخلص أخيرا إلى تحديد ملامح مشروع الإنسان المتعلم في المستقبل.
القسم النظري
المفاهيم:التعليم,التربية.الديمقراطية.
نعني بالتعليم النشاط الذي يكتسب من خلاله المتعلم جملة من المعارف و المهارات تدريجيا وفق مراحل تأخذ في الاعتبار النمو الحسي و العقلي للشخص ( بياجيه).
و يعتبر ابن خلدون في الباب السادس من المقدمة أن" التعليم ملكة تختلف عن الفهم و الوعي " أي أنه لا يكفي أن تكون عالما بعلم معين حتى تستطيع تعليمه.فالتعليم كما أسلفنا فن أو صناعة تكتسب و تختلف طرقه من مدرسة إلى أخرى و من عصر إلى آخر.كما يعتبر ابن خلدون أن انتشار التعليم مؤشر أساسيّ على تطور العمران و قيام الحضارة.إذ ينتشر التعليم كما و كيفا بانتشار العمران و يقل  كما و كيفا كذلك بقلة العمران.
قد يبدو التعليم من خلال التحديد السابق سيما التحديد الخلدوني مقتصرا على مجال العلم و المعرفة ,فهل أن ربط التعليم بالديمقراطية لا يكون إلا لجهة المعرفة و العلم وحسب؟
إن الديمقراطية في هكذا سياق هي موضوع معرفة و علم يشمل الاشتغال على المفهوم و تاريخ ظهوره و تحديد خصائص أنظمة الحكم و مقارنتها ببعضها البعض و تحديد شروطها و أسسها على المستوى النظري.و يمكن تسمية هذا العلم بعلم السياسة من حيث أنه يهتم بالدراسة الوصفية لأنظمة الحكم و آلياتها و التي يمثل نظام الحكم الديمقراطي أحد أشكالها. و لهذا فمعرفة الديمقراطية نظريا لا يعني أن الإنسان قد أصبح ديمقراطيا على المستوى العملي التطبيقي.من هنا لا بد من ربط التعليم بالتربية.وبالتالي نعيد طرح السؤال بطريقة جديدة:كيف يمكن تربية الإنسان على الديمقراطية فيظهر ذلك من خلال الفعل و الممارسة؟
علينا إذن أن نحدد معنى التعليم في علاقة بالتربية و هو ما لم يهتم به ابن خلدون كما تبينا من خلال التحليل السابق.
التربية معجميا مصدر فعل ربى يربى بمعنى أصلح و قوم وتفيد الرعاية و التقويم فالوالدان يربيان أبنائهما بمعنى الرعاية و التقويم.وفي نفس السياق تعني التربية التأديب أي تنشئة الإنسان على جملة من آداب السلوك القويم,
فإن كان التعليم يرتبط بالمعرفة النظرية  فإن التربية ترتبط بالسلوك و الأفعال الصادرة عن الإنسان.
غير أن هكذا فصل مجرد إجراء منهجي لا يصمد أمام التجربة الواقعية,إذ أن المعرفة لا تنفصل عن الفعل حتى إن بلغت درجة التأمل الخالص,و فعل الإنسان لا ينفصل عن المعرفة مهما كانت محدودة.
و إذا أردنا تحقيق التوازن في شخصية الإنسان فيجب أن يكون سلوكه مرتبط بمعرفته و معرفته مرتبطة بسلوكه.من هذا المنطلق فالديمقراطية ليست مجرد معرفة فكم من عالم كان عدوا لدودا للديمقراطية بشكل مرضي ينم عن خلل ما في الشخصية , إن الديمقراطية معرفة و فعل في نفس الوقت لا يرتبط في تقديرنا بالشأن السياسي فحسب و إن كانت تعني في البداية شكلا من أشكال الحكم يقوم على حكم الشعب نفسه بنفسه,بل هي أيضا قيمة تظهر من خلال أفعال الإنسان و سلوكه.لهذا نقدر أن مفهوم الديمقراطية قد تطور من مجرد كونه شكل من أشكال الحكم إلى قيمة مركبة تحكم السلوك تتضمن معاني الاعتراف بالاختلاف في مجالات متنوعة من الحياة الإنسانية مثل الاختلاف بين الثقافات والاختلاف بين الآراء و الاختلاف بين الأديان  بل التأسيس  لذلك في مجالات واسعة من التجربة الإنسانية لا تشكل التجربة السياسية إلا إحدى مظاهرها.إذ يمكن أن نتحدث في هذا السياق عن التعليم الديمقراطي و التربية الديمقراطية.
فماهي خصائص التربية و التعليم الديمقراطيين؟
 التعليم الديمقراطي مصطلح حديث يعني أن حق التعلم تضمنه الدولة لكل مواطن بلغ سن التعلم    بصرف النظر عن  انتمائه الاجتماعي أو جنسه أو لونه أو معتقده.ويعد هذا الأمر مكسبا من مكاسب الدولة الحديثة حيث كان التعليم قديما و في العصور الوسطى حكرا على بعض أبناء الطبقات المسيطرة, صاحبة النفوذ.أما التربية الديمقراطية فهي مصطلح حديث رافق المطالبة بحرية الإنسان و القطع مع أشكال الوصاية التي لا تحترم استقلالية الفرد منذ الطفولة.يقول روسو أحد فلاسفة الأنوار و أدبائه في كتابه الذي خصصه للتربية تحت عنوان"إميل أو عن التربية":" ليس المهم مقدار ما يتعلم الطفل بل المهم ألا يفعل الطفل أمرا يخالف إرادته."

في الجزء المقبل نهتم بفضاءات التربية و التعليم.



    

الأربعاء، 18 مايو 2011

الصادق النيهوم سر وراء الحجاب


عندما تحتجب المرأة المسلمة، آملة أن تفوز برضاء الوعاظ، فإنها في الواقع، لا تلبس عباءة فقط، بل "تتقمص" شخصية مستحيلة، أول مفاجأة فيها، أنها شخصية لم يخلقها الله.

فحجاب المرأة -مثل ختان الذكر- فكرة محلية جداً، لم يعرفها أحد سوى سكان الصحراء في العالم القديم، ولم يكن يحتاج إليها أحد سواهم، لأنها ليست فريضة دينية حقاً، بل مجرد إجراء وقائي لمكافحة العدوى، لجأت إليه شعوب الصحراء، بسبب ندرة الماء بالذات. وقد تحدد هذا الإجراء في ختان الذكر، لمنع تلوث الغرلة، وعزل المرأة في الحجر الصحي، خلال فترات الطمث والولادة. وهو إجراء طبي حكيم، نجح في حصر أمراض تناسلية فتاكة، كان من شأنها أن تزيد من أخطار الحياة في الصحراء. لكنه ليس إجراء دينياً، ولم يصبح فريضة لها علاقة بالدين، إلا على يد اليهود، خلال الألف الثانية قبل الميلاد.

إذ ذاك، كان الكاهن العبراني الذي خرج وراء قطعانه من صحراء شبه الجزيرة، قد تطور في معابد مصر، من ساحر بدوي، يقاتل ملوك الجن بالتعاويذ، إلى "كاهن" في بدلة رسمية، يتكلم باسم الله نفسه. وقد عاد، فسجل تراث العبرانيين من أوله في ضوء هذا الموقع الجديد، حتى أصبح تاريخ اليهود، هو تاريخ الحياة بأسرها، وأصبحت عاداتهم الصحراوية فرائض دينية كونية، وتحول عزل المرأة خلال فترات الطمث والولادة، من فكرة بدوية نافعة إلى وصية سماوية في كتاب مقدس.

ميزة كل كتاب مقدس، أن معلوماته تصبح تلقائياً غير قابلة للجدل. وهي ميزة مفيدة -فقط- إذا كانت المعلومات نفسها حقائق نهائية. أما إذا كانت هذه المعلومات، مجرد صياغة فصيحة لأفكار مجتمع العبرانيين، فإن "الكتاب المقدس"، يتحول بالتدريج إلى كارثة ثقافية. وقد شاءت التوراة أن تعالج موضوع الطمث بمعلومات ساحر أميّ لم يكن يعرف أن الأمراض تنتج عن الجراثيم، بل كان يعتقد أن المرض "عقاب" للمريض على خطاياه. وقد أعتبر طمث امرأة، عقاباً إلهياً من هذا النوع، وسمّاه "نجاسة"، واختار أن يعالجه في سفر اللاويين، تخت خانة تضم أمراضاً معدية مثل الجدري والسيلان. إن اعتبار الطمث مرضاً معدياً، هو السر الكامن وراء عزل المرأة بوصية "إلهية".

ففي ظروف العالم القديم، كان علاج المصاب بمرض معد، هو عزله في الحجر الصحي، ومنعه من ارتياد الأماكن العامة. وقد اختار الكاهن العبراني هذه الوصفة لعلاج المرأة "المريضة"، مصراً على أن الطمث مرض في حد ذاته. فأمر بعزلها سبعة أيام كل شهر "حتى تتطهر من دمها". وأمر بعزلها أربعين يوماً إذا أنجبت ولداً ذكراً. ورفع مدة العزل إلى ثمانيين يوماً، إذا أنجبت أنثى مثلها. وفي نهاية المطاف، كان الكاهن قد حبس المرأة في بيتها أغلب أيام السنة، وكانت التوراة قد جعلت الحجر الصحي فريضة دينية. إن قرار القبض على السجينة يوقعه رب شخصياً: {وكلم الرب موسى قائلاً.. إذا حبلت امرأة، وولدت ذكراً، تكون نجسة سبعة أيام، كما في أيام طمث علتها، تكون نجسة.. ثم تقيم ثلاثة وثلاثين يوماً في دم تطهيرها. كل شيء مقدس لا تمس. وإلى المقدس لا تجيء. وإن ولدت أنثى، تكون نجسة أسبوعين، كما في طمثها، ثم تقيم ستة وستين يوماً، في دم تطهيرها..}

بعد قضاء عقوبة العزل، كان على المرأة أن تقدم قرباناً إلى الكاهن لكي تستكمل طهارتها.
وقد تعمدت التوراة أن تشرح هذه الوصية الطارئة بالتفصيل: {ومتى كملت أيام تطهيرها.. تأتي بخروف وفرخ حمامة -أو يمامة- ذبيحة خطية إلى الكاهن، فيقدمها أمام الرب، ويكفر عنها..}.

هذه الوصية بشأن الخروف والحمامة، لم تكن إجراء طبياً له علاقة بموضوع الطمث، بل كانت خطة تربوية مكتوبة بلغة السحرة، هدفها أن "تعلم" المرأة والرجل معاً، أن الطمث ليس ظاهرة طبيعية، بل لعنة ربانية متعمدة، أحاقت بالمرأة من دون سواها. وهو زعم عدائي سافر، اختارت التوراة أن تشرحه "علمياً" بأسطورتين:

الأولى: أسطورة تعلن أن المرأة نفسها، مجرد مخلوق جانبي، صنعه الرب من ضلع آدم. وهي ترجمة سحرية لحكمة تريد أن تقول: "مكان المرأة إلى جانب الرجل".
الثانية: أسطورة تعلن أن حواء هي التي أعطت آدم "ثمرة محرمة"، وتسببت في طردهما من الجنة. وهي طريقة الساحر في القول بأن النشاط الجنسي، خلال فترات الطمث، مميت للمرأة والرجل معاً.

من هاتين الأسطورتين، استمدت التوراة نظريتها الشهيرة عن {المرأة الملعونة ربانياً}، وأثبتت نص اللعن نفسها على لسان الرب الذي قال للمرأة متوعداً: {تكثيراً أكثر أتعاب حملك، بالوجع تلدين أولاداً...}. وبذلك خرج موضوع الطمث من خانة التلوث والمرض، إلى خانة النجاسة واللعنة، وتحولت اللغة نفسها، من وسيلة للشرح والتفاهم، إلى سلاح إلهي في أيدي السحرة.

في ظروف خرافية إلى هذا الحد، كان من المتوقع أن يرتكب الكهنة خطأ بديهياً ومكشوفاً جداً. فقد نسوا أن المرأة {التي لعنها الرب}، تولد أولاً طفلة بريئة، وتموت بعد ذلك عجوزاً بريئة، وأن الرب لا يلعن الأطفال والعجائز من النساء، ولا يوصي بعزلهن، ولا يقول إن أجسادهن غير طاهرة، مما أربك نظرية لعن المرأة من أساسها، وجعل شريعة العزل، قاصرة -فقط- على المرأة {التي تحبل وتلد}. لهذا السبب، لم يصبح الحجاب فريضة على الطفلة والعجوز، بل اقتصر على المرأة التي تعيش سنوات الطمث.

خلال وقت قصير، كان عزل المرأة بوصية سحرية، قد أحالها إلى {حرم} مسحور، لا يحل لأحد أن يراه سوى الأقارب. وكانت أجيال اليهود قد تعلمت من الكهنة أن مجرد النظر إلى جسد المرأة خطيئة كبيرة في عين الرب. وقد استجابت المرأة لهذا الموقف "الديني"، بأن لزمت بيتها، متعمدة أن لا تخرج للناس، إلا داخل عباءة، تغطي جسدها، من الرأس إلى القدم، لكي لا يضطر يهودي ورع واحد إلى ارتكاب معصية. وهو حل باركه الكهنة بحماسة ظاهرة في جميع العصور، وما زالوا يباركونه بالحماسة نفسها حتى الآن، لكنه حل سحري بحت، ولا علاقة له بالدين.

فعزل المرأة فكرة لا تدخل لغة الدين أصلاً، إلا في مجتمع يتكلم لغة التوراة، ويؤمن شرعاً بأن الله قد لعن المرأة بالحمل والولادة، وجعل طمثها نجاسة، وأوصى بعزلها في الإصحاح الثاني عشر من سفر اللاويين. أما من دون التوراة، فإن أحداً لا يستطيع أن يفسر للمرأة دينياً، لماذا يريدها الله أن تلبس عباءة.

فالقرآن لا يساند مثل هذه الدعوة، ولا يوافق على نظرية المرأة الملعونة من أساسها. وقد أعاد صياغة التوراة لقصة الخلق، متعمداً أن يحذف منها جميع المقدمات التي وردت في الأصل العبراني لتبرير نظرية اللعنة دينياً، فأسقط قول التوراة، إن الله خلق حواء من ضلع آدم، وأسقط قولها إن المرأة قد أغوت آدم بالثمرة المحرمة، وأبطل وصية القربان، ورفض علاقة الكهنة بمفهوم الطهارة، وأعاد معاجلة موضوع الطمث بلغته الأصلية في مجال الطب الوقائي: فبالنسبة للطمث، لم يأمر القرآن بعزل المرأة في الحجر الصحي، بل أمر الرجل باعتزالها في الفراش فقط: {فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن} سورة (البقرة: 222).

وبالنسبة لاستكمال الطهارة، ألغى القرآن شريعة تقديم القرابين، وأنهى بذلك وصاية الكهنة على جسد المرأة والرجل معاً. فأصبحت الطهارة هي النظافة، وتحررت الكلمة النافعة، من معناها الأجوف في قاموس السحرة، وصارت وصية عملية لالتماس الطهارة في الغسل بالماء: {وإن كنتم جنباً، فاطهروا} سورة (المائدة:6).

إن القرآن لا يعتمد وصية التوراة بعزل المرأة، ولا يعتبرها وصية دينية، ولا يمكن تطويعه لاحتواء فريضة الحجاب، لأنه يرفض مصدرها الأسطوري من أساسه. وإذا كان الحجاب قد أصبح الآن فريضة إسلامية، يدعو لها الوعاظ علناً باسم الإسلام، فإن هذه الدعوة ليس مصدرها النص القرآني، بل مصدرها الواعظ المسلم يتكلم لغة عبرانية من دون أن يدري.

فمنذ مطلع القرن الهجري الأول، كان الفقه الإسلامي يتلقى علومه بحماسة كبيرة في مدرسة التوراة، وكان موضوع الطمث قد أعيد إلى خانة {النجاسة} من جديد، فتحولت المرأة المسلمة خلال فترة الطمث إلى امرأة {غير طاهرة} مرة أخرى. وعمد الفقهاء إلى إبطال صلاتها وصيامها طوال أيام المحيض في فتوى، لا تستند إلى نص القرآن، بل تستند إلى قول التوراة: {كل شيء مقدس لا تمس. وإلى المقدس لا تجيء}.

وفي ظروف هذا الانقلاب العبراني على لغة القرآن، قامت القيامة سراً، وبعث عالم التوراة حياً في واقع المسلمين. فأصبح عزل المرأة المسلمة، فريضة في أصل الشريعة، وتحول المرأة نفسها إلى {حرم} لا يراه سوى الأقارب، وصار النظر إلى جسدها خطيئة، وتصاعدت هذه الحرب السماوية ضد المرأة إلى حد جعل مجرد لمس يدها {نجاسة} تنقض الوضوء.

في هذه المرة أيضاً، كان من الواضح، أن شريعة عزل المرأة، لا تسري على الطفلة والعجوز، لأنها ليست شريعة لعزل المرأة، بل لعزل أمراض الطمث، وأن المشكلة من أساسها، مشكلة طبية لا علاقة لها بالدين. لكن الواعظ المسلم لم يشأ أن يلاحظ هذه الثغرة الواسعة في نهجه السحري. وقد اختار أن يتكلم باسم الله نفسه، كما فعل معلمه العبراني القديم، واختار أن يلعب بالنار في عالم لا يعرفه.

فحجاب المرأة ليس شريعة من أي نوع، بل منهجاً تربوياً مكتوباً بلغة السحرة. قاعدته النظرية أن {المرأة مخلوق نجس}، وقاعدته العملية أن يقنع المرأة نفسها بقبول هذه الشخصية. وهي كارثة تحققها فكرة الحجاب على ثلاث مراحل رئيسية:

في المرحلة الأولى، تتعلم الطفلة أن أقوال السحرة نصوص مقدسة، وأن السحرة يقولون إن الطمث نجاسة، يلزم عزلها.

في المرحلة الثانية، تكبر الطفلة، لكي تصير شابة وتتعلم أنها شخصياً قد أصبحت نجسة، وبات عليها أن تدخل في الحجاب.

في المرحلة الثالثة، تكتشف المرأة المحجبة أن الحياة وراء الحجاب مجرد نوع من الموت العلني، في عالم خاو، ومفرغ عملياً من معنى الحياة. وهو اكتشاف لا تستطيع المرأة أن تواجه أبعاده بأي قدر من النجاح، إلا إذا عبرت الخط الفاصل، وماتت سراً من دون أن تدري. إن الحجاب فكرة فظيعة إلى هذا الحد.

فالمرأة المحجبة، لا تخفي نفسها كالطفل داخل عباءة، لأنها امرأة ورعة، بل لأنها امرأة مسحورة، تعرضت لحرب نفسية رهيبة، شنها السحرة ضدها طوال ثلاثة ألاف سنة، ضمن خطة تربوية مكتوبة بلسان أكبر ساحر في العالم. وقد نحم عن هذا الضغط الهائل شل عقل المرأة وتدنيس جسدها، وأتاح إدانتها -شرعياً- بأنها {ناقصة عقل ودين}، وأحالها إلى مخلوق مريض في حاجة ماسة إلى رحمة الله. إن الحجاب فكرة فظيعة إلى هذا الحد.



هذه النص مأخوذ، من كتاب الصادق النيهوم: الإسلام في الأسر {ص: 111-117} – دار رياض الريس للنشر

الخميس، 14 أبريل 2011

قصة قصيرة

 : خالد كلبوسي
بلاد الأشباه
استمر الملك على العرش جيلا بأكمله,وكان قد خلف أباه الملك الذي تربع على العرش مدة جيل كامل كذلك. و يذكر كتاب " تاريخ الملوك" أن هذه الحال استمرت جيلا بعد جيل في هذه البلاد التي تعرف ببلاد الأشباه. و قد كانت طباع الناس قليلة التغير و يميلون إلى التكرار و السكينة في حياتهم.
لقد كان الملك المذكور متزوجا من صاحبة التاج الملكة التي لم تنجب له أبناء يخلفونه على العرش, و  لوحظ أنه كان مهموما في الفترة الأخيرة , ذلك أن الحكم سيؤول بعد موته إلى ابن عمه الذي كان يكره حتى ذكر اسمه.
لقد كانت الأعراف السائدة تقضي بأن لا يتزوج الملك امرأة أخرى لكن يمكن له أن يعاشر من النساء ما يرغب فيه,كما كانت الأعراف كذلك تقضي بتحريم التبني.هل يسعى إلى الحصول على طفل يدعي أن صاحبة التاج أنجبته فعلا فيخلفه على العرش؟غير أن هكذا سر قد ينكشف,فيطرد من المملكة كما تقضي الأعراف.
لقد كان الملك واسع الإطلاع يقتفي آثار الأبحاث العلمية رغم أنه متمسك بأعراف البلاد التي تقضي بأن لا يتزود من العلوم  إلا ما يخدم ما تعود عليه الناس في المملكة.وكم كان سعيدا عندما علم أن العلماء توصلوا إلى استنساخ البشر.إن هكذا إنجاز لا يتعارض مع أعراف البلاد و عاداتها التي تقدس التكرار في نفس الوقت الذي يمكنه من استنساخ شبيه له يخلفه في العرش. وهكذا التقى العلم مع السياسة.
 سعى الملك بعد ذلك أن يستنسخ شبيها له, و قد تم ذلك بالفعل و أغدق الملك العطاء لفريق البحث الذي قام بالعمل.
لقد كان الطفل النسخة شبيها تماما للملك حتى في الحركات و الإيماءات فضلا عن الشكل الخارجي, و قد سمح الملك للرعايا أن يستنسخوا أشباه لهم احتراما للأعراف و العادات المكررة.و هكذا سيتم توريث العرش إلى نسخته.
لقد أدرك الملك أن الاستنساخ  آلية جيدة لمقاومة الاختلاف,به ينهي العلم مهزلة التنوع.ومنذ ذلك الوقت الملوك ينتجون نسخا عنهم و الرعايا يستنسخ بعضهم بعضا,غير أن هناك مشكلة أخرى لعلها أعوص بكثير من مقاومة التغير و الاختلاف تعترض سبيل الحكام , إنها القلق, قلق الإنسان من الأشباه ,فعالم النسخ يفضي حتما إلى القلق الدائم.  
                                                                     انتهى
ملاحظة: اعتمدت في كتابة الأقصوصة على مسودة مرت عليها عدة سنوات.

الثلاثاء، 12 أبريل 2011

ثنائية اليسار و اليمين

gauche droiteثنائية اليسار و اليمين
تحرير : خالد كلبوسي
تعود ثنائية 
gauche droite
إلى تراث الثورة الفرنسية عندما اجتمع أعضاء المجلس الشعبي في شهري أوت و سبتمبر من سنة 1789لختاروا النظام السياسي الملائم للثورة حيث اصطف المناوئون لسلطة الملك على يسار رئيس المجلس الشعبي بينما اصطف الموالون للنظام الملكي على يمين رئيس المجلس,و قد انتشرت التسمية فيما بعد في أنحاء عدة من أوروبا و بريطانيا و أمريكا .
أما في تونس فنستعمل كلمة اليسار أكثر من كلمة اليمين و يشير اللفظ الأول إلى المجموعات السياسية التي تتخذ من الإيديولوجيا الاشتراكية أرضية فكرية,لكن هناك اختلافات بين هذه المجموعات .و بالمقابل يبدو أن لفظ اليمين يشير إلى المجموعات التي تتخذ من الليبيرالية مرجعيتها.غير أن الأمر ليس كذلك ,فقد استعمل اليسار في المعنى الذي أشرنا إليه سابقا بينما استعمل مقابل ذلك الإسلاميون و ليس اليمين,وهو أمر يحول دون فهم طبيعة الصراعات القائمة.فالصراع الأساسي كما بينت ثورة 14 جانفي في تونس هو صراع بين الشعب و الدكتاتورية على المستوى السياسي , أما على الصعيد الاقتصادي فالصراع حاصل بين الأجراء والمعطلين عن العمل من ناحية و المشغلين من ناحية أخرى.
إن التحولات التي تعيشها تونس و الدول العربية تستدعي فكرا جديدا يستعين بالتراث الفكري السابق دون أن يكون سحين حدوده الضيقة,وهو أمر يبدو أن المجموعات السياسية في تونس بدأت تتحسسه للتو و سيتطلب الأمر بعض الوقت لتحقيق توافق في استعمال المصطلحات.
بقي أن أشير إلى أمر هام مرتبط بالسياق :إن الشعوب الثائرة تخلق رموزها كما تخلق أفكارها,لذلك من المهم تجذير الفكر التقدمي في تراث الشعوب إلى الحد الذي تصل فيه إلى خلق رموزها و مفاهيمها الخاصة بها و ذات البعد الكوني في نفس الوقت,لا أن نكتفي بمجرد نقل مفهوم أو رمز نقلا حرفيا من سياق تاريخي و حضاري إلى آخر دون الانتباه إلى ما يمكن أن يحدثه ذلك من صد و مقاومة تستغله القوى المعادية في صراعاتها الإيديولوحية.

الجمعة، 25 مارس 2011

العلمانية (بفتح العين) و العلمانية (بكسرالعين) و اللائكية

 فالعَلمانية (بفتح العين) يقابلها في اللسان الفرنسي sécularisme والعلمانية (بكسر العين) scientisme واللائكية Laïcité.
أما العَلمانية (بفتح العين) فتعود إلى أصلٍ هو العَالم (بفتح اللام) الدنيوي، ومنها العلمنة sécularisation من علمن séculariser ذي الجذر اللاتيني بمعنى siècle (قرن) إذن دلالة الزمان الواقعي، والحياة الوضعية. وتتفق العَلمانية (بفتح العين) والعِلمانية (بكسر العين) في الوقوف على أرضية التطور العلمي والترقي الذهني للإنسان، وإذا كانت الأولى مفهوما قديما عريقا على صلة بالمنازع الفلسفية المادية وبمسار السيطرة على الطبيعة واكتشاف قوانينها وتسخيرها لخدمة البشر، فإن الثانية لم تزدها إلا رسوخا بما تحقق للعلوم من فتوح متتالية قلصت سلطان الجهل وأتاحت إحاطة أكبر بظواهر الكون وفهما أعمق للأديان وعقلية أوسع لإدارة شؤون الاجتماع البشري.
وتعود اللائكية إلى الأصل اللاتيني "لايكوس" laikos بمعنى ما هو من مشمولات أنظار الشعب لا أنظار رجال الدين (الإكليروس) وما هو مستقل عن الهيئات الدينية (دولة لائكية، قضاء لائكي، تعليم لائكي... أي منظم وفق قواعد اللائكية وقيمها مع وجوب ملازمة الحياد على الصعيد العقيدي).
وحسب ما انتهى إليه الباحث فتحي القاسمي في أطروحته "العَلمانية وطلائعها في مصر" فإن اللائكية تجسم الجانب العملي والسياسي للعلمانية" وأنها "أصبحت في القرن التاسع عشر تيارا فكريا قويا وموجة ذهنية نشيطة استقطبت الاهتمام وأصبحت لها نواديها ومؤلفوها المدافعون عنها" (ص35)ـ....

وما من شك في أن المشهد الدامي لما يحدث في العراق وفلسطين، وبلدان عربية وإسلامية أخرى، من تناحر طائفي وقتل على الشبهة المذهبية وتقتيل بالجملة لأبناء هذه الطائفة أو تلك سواء داخل مواطن تعبّدها أو مواطن تواجدها في الحياة العامة، هو الذي كان له دور كبير في العودة بموضوع الحل العلماني، إلى الواجهة، وفي اعتباره، عند عدد متزايد من أهل النظر، الأفــق الوحيد ما دام ينبني على الفصل بين الشأن المعتقدي، وهو فردي وخاص، والشأن السياسي، وهو مجتمعي وعام، وما دام بالتالي كفيلا بوضع حد للاقتتال الطائفي ولمصادرة أبسط الحريات واستعباد الأرواح فضلا عن الأبدان. فبلاد كالعراق أو فلسطين أو سوريا أو السودان أو لبنان، أو غيرها من بلاد الشرق والغرب، لا يستوي أمرها إلا بإقرار العلمانية في تنظيم العلاقة بين الدين والدولة، ما دامت بلادا متعددة الأديان والعقائد والطوائف، لا يجوز لطرف واحد أن يبسط نفوذه ويفرض سلطانه على بقية الضمائر بالقوة المولدة للانفجار، وحمامات الدم. بل إن عدم الإذعان للحل العلماني على الواجهة الفلسطينية، مثلا، كان سببا حتى الآن في تشتيت الصف السياسي والتنظيمي للحركة الوطنية الفلسطينية وشرذمتها إلى رايات مذهبية وطائفية متعددة تعمل كل منها لحسابها الخاص، وتأبى التنازل عن نرجسيتها الفصائلية لحساب الحركة، بما أضعف مردود المقاومة ووفر على المحتل متاعب جمة. لكن ولئن كان في موروث الدولة العربية والإسلامية عناصر علمانية هي التي شكلت قاعدة للخلق والإبداع والتطور الحضاري فإن مهمة إرساء النظام العلماني اليوم، باعتباره حجر زاوية في الدولة الديمقراطية الحديثة، لا نراها منتظرة من أنظمة الاستبداد والفساد والعمالة القائمة حاليا، ولذا فإن استكمال هذه المهمة التاريخية مرتبط بالتحولات الديمقراطية الوطنية التي على قوى التغيير الحقيقي أن تنجزها والتي نعيش مخاضها العسير راهنا. وليس معنى ذلك أن على هذه القوى انتظار تلك الساعة الفاصلة وتعليق تحركاتها، بل المطروح هو العمل الدؤوب والنضال اليومي من أجل تقريب تلك الساعة ومراكمة المكاسب مهما كانت جزئية وعدم الاستسلام لتيار الردة.
لكن ذلك لا يكفي لكي يجعل من العلمانية قناعة واسعة النفوذ في المجتمع خصوصا أمام مساعــي التشويه التي ما انفك شيوخ التكفير يلحقونه بها، وأمام الأحكام المسبقة ذات الخلفية التكفيرية التي زرعتها الدولة القائمة عبر المؤسسة الدينية وعلى منابر المساجد والجوامع، وعبر المؤسسة التربوية والتعليمية والثقافية والقيم السائدة ذات الحمولة الإقطاعية والعبودية في جانب كبير منه
عن صحيفة البديل ـ بتصرف ـ ماي 2008

الجمعة، 11 مارس 2011

كانط و الشعب التونسي



في كتابه "مشروع سلم دائمة" حدد الفيلسوف  الألماني الكبير كانط شروطا يتحقق من خلالها تجنب الحرب و إنشاء سلم عالمية.من بين الشروط  الأساسية التي ذكرها:
                         1ـ دستور جمهوري ديمقراطي. 
                         2- تأسيس فدرالية دول حرة  على مستوى العالم.
                        3ـ مبدأ الضيافة الكونية اللذي يسميه هابرماس البعد الثالث لنظرية الحق العام , الحق الكوسموسياسي.
إن الشعب التونسي  استقبل إلى حد الآن أكثر من 100 ألف لاجىء حاول أن يوفر لهم الغذاء و الغطاء و الدواء إضافة إلى الملجأ الآمن على أرضه مراعيا في نفس الوقت آداب الضيافة الكونية. يبدو أن شعب تونس السخي هو بصدد المساهمة في  تحقيق نبوءة  كونية للفيلسوف الألماني  داعية السلم العالمي خارج ألمانيا رغم الفترة الانتقالية التي يعيشها البلد. وهو أمر لا يجب أن نستغربه من الشعوب المتحضرة بقدرما يجب التنويه به .إنه أمر قليل من كثير. 

الخميس، 20 يناير 2011

أفكار حول الثورة الجارية الآن في تونس

يتجاوز ما يجري في تونس الآن كل التوقعات,فالثورة بصدد صنع تحول تاريخي عميق في آليات إدارة الشأن العام.وهي تكشف عن خلل في العلاقة بين الفكر و الممارسة في  تونس و بقية البلدان العربية.
أولا لم يخطر ببال أي مفكر أو سياسي في تونس أو غيرها أن يؤدي إحراق الشهيد البوعزيزي نفسه إلى إحراق النظام الدكتاتوري من قبل الشعب و بطريقة دراماتيكية سجل فيها الشعب انتصارات متتالية خلال جولات ثلاث  انتهت بفرار الدكتاتور و عائلته.
ثانيا لقد سارت الثورة في نسق تصاعدي  بدءا بالمطالبة بالتشغيل إلى المطالبة بتحسين المقدرة الشرائية وصولا إلى إسقاط رمز النظام الاستبدادي و آلياته السياسية و الفمعية.وهو أمر لم يستطع أحد أن يستشرف مساره المبهر.
ثالثا إن الثورة الآن بصدد قبر الحزب الحاكم حتى تستمر الدولة في بناء مؤسسات الديمقراطية عن طريق قوى سياسية مغايرة تتجاوز التصورات السياسية الموجودة حاليا بيمينها و يسارها و وسطها.كما أعتقد أن القوى السياسية ببرامجها المعروفة ليست قادرة على الاستجابة إلى متطلبات المرحلة المقبلة.فليس هناك في تونس حزب  ديمقراطي بالفعل .و الأحزاب الموجودة لا تدعو إلى الديمقراطية إلا من أجل الاستلاء على السلطة و ليس استجابة لطوحات من قام بالثورة.
رابعا ليس هناك مفكر واحد من تونس أو غيرها من البلدان العربية  نظر لثورة الشباب العاطل عن العمل في عصر الاتصالات الحديثة.

الأحد، 9 يناير 2011

الحرب الثقافية

·         تحرير إبراهيم علوش

في عشرينات القرن العشرين، قبل انتشار مقولة “صراع الحضارات” وتوظيفها من قبل المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية لشن الحروب، وقبل صعود الحركات الإسلامية بأمدٍ طويل، صاغ المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 – 1937) في “دفاتر السجن” مفهوماً اجتماعياً-سياسياً جديداً وقتها هو مفهوم “الهيمنة الثقافية”.   وقد سعى من خلال ذلك المفهوم إلى تفسير سبب عدم انتشار الثورة الاشتراكية إلى أوروبا الغربية قائلاً أن هيمنة الطبقة الرأسمالية على المجتمع لا تعتمد على القوة والمال والسلطة فحسب، بل على “الرضا”، رضا أغلبية المجتمع المسحوقة، عندما تتحول قيم الطبقة الحاكمة ومفاهيمها إلى قيم “بديهية” – حتمية وطبيعية – عند عامة الناس يرون الخروج عنها خروجاً عن المنطق السليم أو “الحس العادي” أو “الطبيعة الإنسانية”. ومن هنا، اعتبر غرامشي أن الثقافة، أو الهيمنة الثقافية بالتحديد، تشكل بعداً أساسياً لهيمنة الرأسمالية على المجتمع لا يمكن تجاهله أبداً في خضم الإعداد للثورة السياسية أو حتى لفهم الوضع السياسي الراهن.

ومن هنا انطلق غرامشي، الألباني الأصل، ليحاجج بأن نجاح الثورة أو التغيير الاجتماعي يعتمد بشكل أساسي على إنتاج “ثقافة بديلة” عند الشرائح المسحوقة في المجتمع، ثقافة تكرس ربط  المعاناة الخاصة للمواطن بالمشكلة العامة، لأن الفرد قد يعيش أو يلمس انعكاسات البنية الاجتماعية الظالمة على جزيرته الصغيرة في الوجود، دون أن يتمكن من رؤية الأسباب الأساسية للظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

وفيما بعد طور غرامشي هذه الفكرة في “الأمير الصغير” ليتحدث عن دور الطليعة الثورية في المجتمع في إنتاج “مثقف عضوي”، من صفوف المستضعفين، يحمل ثقافة بديلة للثقافة السائدة، ثقافة بديلة لقيمها ومفاهيمها ومؤسساتها وتقاليدها بكل ما للكلمة من معنى، و”عضوية” بمعنى أنها بديلة لشريحة “الإنتلجنسيا”، أو شريحة منتجي الثقافة والفكر والفن والكتابة (دون أن يكون كل هؤلاء من الكتاب طبعاً).  وهي شريحة تمثل أداة الهيمنة الثقافية للرأسمالية على المجتمع، قد تظن نفسها فوقه أو منفصلة عنه، وهي في الواقع جزء عضوي من نوع أخر للهيمنة التي تفرزها البنية الاقتصادية-الاجتماعية السائدة على عقول الناس وقلوبهم.  وقد تبلورت فكرة “تثقيف المسحوقين” فيما بعد بشكل مستقل نسبياً كما نراها عند فرانز فانون في “المعذبون في الأرض”، أو عند باولو فراري من أمريكا اللاتينية كما في “علم تربية المضطهدين”.  لكن هذا ليس موضوعنا هنا.

موضوعنا هو مفهوم “الحرب الثقافية” التي اعتبرها غرامشي “حرب مواقع”، أي حرب بين جيوش ثابتة، لا بد لها أن تسبق “الحرب المتحركة”، وهي مرحلة الهجوم أو الثورة السياسية.  وبذلك دخل مفهوم “الحرب الثقافية” معجم العلوم السياسية والاجتماعية من أوسع أبوابه، وإن كان غرامشي، كماركسي قح، قد ربطه بالصراع الاجتماعي الداخلي فحسب عند هذه النقطة، لا الخارجي، وقد عنى به تحديداً ضرورة قيام السياسيين والمفكرين المعادين للبنية السائدة وهيمنة النظام الرأسمالي بمحاولة طرح فكرهم وخطهم منهجياً في وسائل الإعلام والمنظمات الجماهيرية والمؤسسات التعليمية بقصد تعزيز الوعي الطبقي وغرس القناعة ببديل أخر للفكر السائد، وهو بديل شيوعي بالنسبة لغرامشي طبعاً.

ومع أن غرامشي هو واضع الفكرة بشكلها الأصلي، أي فكرة “الهيمنة الثقافية” و”الحرب الثقافية” اللازمة للتخلص من تلك الهيمنة، يسهل كثيراً أن نتخيل نسخة قومية أو إسلامية، أو حتى إمبريالية، من مفهومي “الهيمنة” و”الحرب” الثقافية.  ففكرة غرامشي يمكن سحبها على كل حالة تعمل فيها جماعة بشكل منهجي منظم لنقل الثقافة السائدة جذرياً للأمام أو للخلف.  ويمكن سحبها على جهود الغرب لتغيير قيم المجتمع العربي ومفاهيمه، من خلال مراكز الأبحاث ومنظمات التمويل الأجنبي مثلاً، كما يمكن سحبها على مشروع إحلال ثقافة قومية وحدوية محل الثقافة السائدة القطرية والطائفية والعشائرية والاثنية… أو التفكيكية عامة، أو بالعكس.  لا بل يمكن أن نتصور الحاجة الموضوعية لإيجاد ثقافة بديلة للثقافة السائدة في المجتمع العربي كأحد أهم العوامل التي أدت إلى نشوء جيوب ثقافية سلفية أو اصولية تسعى إلى إعادة إنتاج المجتمع على مقاسها، وتوفر في الآن عينه ملجأً من هيمنة الثقافة السائدة، ولو بالعودة إلى ماضٍ من المطلوب إعادة إنتاجه في الواقع بعيداً عن تناقضاته الواقعية.

وفي التسعينات من القرن العشرين، انطلق محافظو الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة ليشنوا حرباً ثقافية، كما سميت رسمياً وقتها، لإعادة تنظيم المجتمع الأمريكي نفسه من خلال نفس الآليات التي وصفها غرامشي، مثل التعبئة والتنظيم وشن حملات في وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والثقافية والمنظمات الجماهيرية والقضاء.  وكان ذلك على خطوط ثقافية الطابع تشق المجتمع الأمريكي نصفياً تقريباً مثل قضية حق الإجهاض أو حقوق المثليين أو حقوق الأقليات أو حق امتلاك السلاح فردياً أو حق الصلاة في المدارس الخ… وكان السياسي والصحافي الأمريكي بات بيوكانن، القادم من الحزب الجمهوري، أحد أبرز رموز هذا التيار اليمني المحافظ في السياسة الداخلية، والمعادي للوبي الصهيوني ولحروب الولايات المتحدة في الخارج، ومنه العراق، في السياسة الخارجية.  وقد خاض بيوكانن معركته الانتخابية رسمياً ضد جورج بوش في مؤتمر الحزب الجمهوري عام 1992 تحت عنوان “الحرب الثقافية”.  ويمكن تصنيف اليميني المحافظ ليندون لاروش، القادم من الحزب الديموقراطي، تحت نفس العنوان.

ولينتبه القارئ الكريم أن تعريف “اليمين” و”اليسار” يصبح صعباً جداً، وخارجاً عن أي سياق واقعي هنا، إذ ترى “اليميني” بات بيوكانن، المحافظ في القضايا الثقافية والاجتماعية، يناهض العولمة باسم حقوق العامل الأمريكي، ويناهض اللوبي الصهيوني وحروب أمريكا الخارجية، في الوقت الذي يدافع فيه عن التدين ضد علمانية الدولة، ويناهض مع التيار المحافظ في أمريكا حق الإجهاض للمرأة وحقوق المثليين الخ…  وإذ ترى “اليسار”، بالمقابل، بتركيزه على تجاوز الهوية القومية والحضارية، وبتركيزه على حقوق الأفراد والأقليات على حساب الحقوق القومية، وبإدانته لحركات المقاومة ذات الهوية القومية أو الإسلامية، وجهاً أخر للعولمة الإمبريالية!

ويمكن بسهولة أن نرسم خطاً موازياً هنا، مع إضافة العمل المسلح للبعد الثقافي، فوق خريطة بعض الحركات الإسلامية المناهضة للهيمنة الأجنبية والصهيونية في الوطن العربي والعالم الإسلامي، التي تتمسك في الآن عينه بخط محافظ أو متشدد جداً في القضايا الاجتماعية والثقافية… وهي معضلة وضعت كثيراً من اليساريين في الوطن العربي وحول العالم في حالة فصام نفسي وسياسي حقيقية: هل يقفون في الصراع الواقعي الدائر هنا والآن مع ليبرالية الإمبريالية والصهيونية، أم يقفون في مواجهة الإمبريالية والصهيونية مع صيغة المقاومة الثقافية ذات اليافطة الدينية التي كان غرامشي يعتبرها عنواناً لثقافة سائدة تكرس هيمنة الرأسمالية؟!  بمعنى أخر، هل ينضمون لمنظمات التمويل الأجنبي لتغيير المجتمع ليبرالياً على النمط الغربي، ولتفكيك القضية الوطنية إلى قضايا جزئية، والحركة الوطنية إلى جمعيات غير حكومية، أم يلقون بثقلهم خلف قوى المقاومة الفعلية بالرغم من تحفظاتهم “الثقافية” عليها؟!

“لا هذا ولا ذاك”، “ولا بد من خيار ثالث”… ليس جواباً حقيقياً في الصراع السياسي الدائر هنا والآن، حتى لو تم تقديم الدعم من موقع الحفاظ على هوية سياسية أو عقائدية متميزة.  ويصح هذا بالأخص عندما تتحول “الحرب الثقافية”، من جهة قوى الهيمنة الخارجية، من معركة داخلية إلى معركة خارجية، لندخل حالاً في مفهوم “الإمبريالية الثقافية”، وهو مفهوم تبلور في ستينات وسبعينات القرن العشرين، يدرس عملية تحويل قيم المستعمِر ومفاهيمه ومؤسساته وتقاليده إلى أمرٍ “بديهي” و”طبيعي” و”حتمي” في عقول الشعوب المستعمَرة وأفئدتها… ويحتاج مفهوم “الإمبريالية الثقافية” إلى معالجة أكثر تفصيلاً، خاصةً في سياق علاقة التبعية التي تفرضها على الشعوب والأمم الفقيرة، من خلال سيطرتها الكونية على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وعلى وسائل إنتاج الثقافة والفن والإعلام عالمياً، عبر شركات عملاقة عابرة للحدود تصنع برنامج الحاسوب وفيلم هوليود والتقرير الإخباري الذي تتناقله وسائل الإعلام العربية كأنه كلامٌ منزل!

وقد أنتجت ممارسة “الإمبريالية الثقافية” في التسعينات، خلال فترة الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة، مفهوم “القوة الناعمة”، وهي فكرة فرض الهيمنة من خلال استمالة وجذب العقول والقلوب عبر الأدوات الثقافية، مقارنةً بمفهوم “القوة الخشنة”، أي استخدام القوة العسكرية والسياسية والمالية لفرض الهيمنة.  ومفهوم “القوة الناعمة” بلوره عالم السياسة الأمريكي جوزيف ناي في تسعينات القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، وقلنا بلوره، ولم نقل وضعه، لأن ابن خلدون سبق أن تطرق لمفاهيم “الهيمنة الثقافية” وتشبه المغلوب بالغالب في العادات والكلام واللباس الخ…  وكذلك فعل بعض فلاسفة الصين القدماء.

المهم، في مثل ذلك السياق، سياق مقاومة “القوة الناعمة” كأداة لفرض الهيمنة، وسياق مقاومة “الإمبريالية الثقافية” في ظل العولمة، أن العودة للأصول والتراث عند الشعوب المستهدفة تصبح شكلاً غريزياً من أشكال “المقاومة الثقافية”، لا يجوز تقييمه إلا في سياقه، سياق الصراع السياسي الواقعي ضد الإمبريالية وأدواتها الثقافية.  فهذا ليس صراعاً في مختبر ثقافي أو برج عاجي بين أنصار “ما قبل الحداثة” وأنصار “ما بعد الحداثة”، كما أنه ليس صراعاً بين “بربريتين”، كما ذهب بعض اليساريين الغربيين والعرب، بل هو انعكاس ثقافي للصراع السياسي الدائر على الأرض لا يقل عنه ضراوةً.  في مثل ذلك الصراع، لا يجوز الاصطفاف إلا مع مشروع مقاومة الهيمنة الإمبريالية، نعم، ولو كان طالبانياً من الناحية الثقافية.

أما آليات الدفاع الثقافي الغريزية، فهي بالضبط آليات دفاع، أي “حرب مواقع”، وهذا هو دورها، ولن تستطيع أبداً أن تصبح مشروعاً نهضوياً، وأن تعالج الواقع بشكل صحيح تاريخياً، أي أن تتحول إلى “حرب متحركة” بمعنى التصدي للأسباب الحقيقية للظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الداخلي والخارجي، بدون رؤية علمية وموضوعية لتحديات العصر وتناقضاته.  فذلك يحتاج إلى مشروع حداثوي عربي من نوع أخر، لا يقطع مع التراث، بل ينبثق منه، ولا يغمض عينيه عن تناقضات العصر وتحدياته في ماضٍ مجيد كانت ظروفه وتحدياته ومشاكله مختلفة تماماً.   نحن بحاجة إذن لمشروع مقاومة ونهضة ثقافية لا يضيع الهوية في ما بعد الحداثة، ولا يضيع صوابه بالهروب من الواقع في ما قبل الحداثة، ولا يستورد حداثة ذات مقاسات جاهزة من أزمنة أو أمكنة أخرى.  لكن ذلك موضوع كبير بحد ذاته يحتاج بالتأكيد إلى معالجة نأمل أن نعود إليها في مناسبة أخرى.

                                                                                                                                                                                                                                   العرب اليوم، 23/2/2010

                                                                                    ـ انتهى ـ



السبت، 8 يناير 2011

العقلانية و التراث

موقف الجابري وأركون ونصر حامد أبو زيد من التراث

                                                     تحرير: نصيرة مصابحية
                                                                              أستاذة بالمركز الجامعي سوق اهراس
تبلور الخطاب الفكري في عصر النهضة في خضم الصراع بين تيارات مختلفة، تحاول تأصيل أفكارها من أجل تجاوز الأزمة الحضارية. فلقد برزت مجموعة مـن التيارات التي تنادي باعتناق الـفكر الغربي كأساس منهجي علمي، يساعد العقل العربي على تخطي أزماته الفكرية واللحاق بركب الحضارة العالمية ،وهناك مـــن رفض هذا الفكر وحاول الرجوع إلى التراث، باعتباره القاعدة الأساس التي من خلالها نستطيع الحفاظ على الهوية العربية ،أما التيار التوفيقي فـقد نادى بضرورة التـوفيق بين الفكر الغـربي و الموروث العربي لضمان التحديث والسير بالفكر العربي في مسار الـتقدم و العلمية ، وقد انقسمت الساحة النقدية والفكرية إلى : تيار علمي علماني وتيار سلفي، يتجاذبان العقل العربي و يحاولان صياغة الخطاب الفكري العام صياغة إيديولوجية في أغلب الأحيان، فالتيار العلماني يـدعو إلى اعتناق الفكر الغربي و نبذ التراث الذي أصبح في نظرهم قاصرا عن احتواء الإشكاليات الفكرية الراهنة، أما التيار الإصلاحي فقد رأى في التراث العربي ضالته،لأنه يحمل من الفكر الحداثي العربي ما يماثل الفكر الغربي، لذلك دعو إلى تبنيه . ومن هذا المنطلق عرفت الثقافة العربية الحديثة مجموعة مـن المفكرين و الــنقاد الذين حاولوا بلورة الخطاب الثقافي العام من منطق فكري و منهجي ، حيث شكل التراث القاسم المعرفي المشترك بينهم.
وقد تعددت آراؤهم واختلفت مناهجهم، فمنهم من درس التراث من منطلق عقلاني ، محاولا تغيير نمطية الدراسات الفكرية وإخراج الإرث الثقافي من دائرة الاستهلاك والاجترارية، ويعتبر محمد عابد الجابري من أهم المفكرين الذين نادوا بهذه الفكرة ، كما نادى آخرون بضرورة التخلص من الفكر الاستشراقي و إعادة صياغة الموقف الفكري الراهن انطلاقا من إعادة استيعاب الذات العربية و جعلها المدار الأساس في الدراسة، و قد حــمل محمد أركون لواء هذه الفكرة ، أما نصر حامد أبو زيد وحسن حنفي فـقد حاولا إعادة تأويل الـنص الـديني، و الخطاب الديني من منطلق تاريخي ، وعلى أسس مختلفة.
أما النقاد فقد اختلفت مناهجهم و تنوعت،فمنهم من نادى بالخرق و رأى فيه معيارا نقديا، يبرز الجوانب الحداثية في التراث العربي و يعتبر أدونيس من أهم ممثليه ، أما بالنسبة لعبد الله الغذامي فقد رأى بأن التراث تتحكم فيه مجموعة من الأنساق الثاوية بين أرجاء نصوصه الإبداعية و التي تمارس إشعاعها الجمالي و الفني ، على النص و على متلقيه لذلك يدعو إلى اكتشافها من خلال آلية النقد الثقافي ،أما عــبد العزيز حمودة فهو يرى بأن التراث زاخر بمختلف الإشارات التي تصلح أن تكون مبادئ لنظرية عربية أصيلة .
ولكن مهما اختلفت الـرؤى والإجراءات المنهجية المتبعة من ناقد إلى آخر ومن مفكر إلى آخر، فإن هؤلاء جميعهم حاولوا إثراء الموقف الثقافي العام، وانتشال الفكر العربي من براثن الجمود والتبعية
1- التراث في كتابات محمد عابد الجابري :
النظرة العقلانية للتراث :
ينطلق الجابري في مـشروعه الفكري من نقد مقومات العقل العربي ومرتكزاته المعرفية ،متجاوزا بذلك فكر المصلحين النهضويين لتأسيس وعي نقدي قائم على الديمقراطية والليبرالية والحداثة، محاولا بذلك إرساء دعائم الفكر التراثي الأكثر نضجا وعلمية، وإعادة قراءته من منطلق حداثي ، مستثمرا بذلك المناهج الغربية لدراسته .
ويرى الجابري أن التراث يتطلب قراءة نقدية جديدة و جدية ، تسعى إلى الكشف عن مكامن قصوره ومحاولة تخطيها ، وذلك بالاستفادة من المواقف التراثية التي شهد لها بالعلمية والـتفوق و القــدرة على التحــقق في الواقع الفكري الراهن ،من خلال إعادة صياغتها من جديد .
ويرى بأن هذه الإمكانية لا تتحقق إلا من خلال تطبيق بعض المناهج الغربية باعتبارها أدوات منهجية علمية تساعده على كشف أغوار التراث، " لذلك استحضر أطرا مرجعية مختلفة ، من الديكارتية إلى فلسفة الأنوار التي تـظهر جليـا في تركيزه على فكــرة التقـدم والعـقلانية ، كما نلمس حضورا متميزا لفلسفة فوكو M .Faucoult و التو سير L.Athusser و غراميشي A Gramsci و الماركسية في صورتها النقدية و ليس في شكلها العقائـدي" 1.
وهـو بذلك يقول بفكرة عالمية الثقافة،وإن الفكر الغربي بحداثته ما هو إلا جزء من المـورث الحضاري الإنساني،حيث يستطيع الناقد العربي استثماره بما يخدم رؤاه وخلفياته المعرفية، ،وبـذلك فإن هذا المفكر يدعو إلى تطـويع المناهج الغربية ،وإعادة صياغة بعـض أسسها بما يخدم خصوصية النص التراثي ،انطلاقا من فكرة قابلية المنهج للتغيير،ولا يعني هــذا اجتثاث المنهج الغربي من سياقاته المعرفية وإنما هي دعوة علمية رصينة تحاول تأطير المناهج الغربية ضمن فضاء فكري و ثقافي عربي، من خلال إعادة البلورة المنهجية العلمية الدقيقة ، فهو بهذا يضع الحداثة الغربية في ، " سياقها التاريخي و ملابساتها السوسيوثقافية ،ومن خلال هذه الرؤية النقدية المتبصرة،يحـاول استثمار إنجازاتها المعرفية و المادية بما يتماشى وخصوصية الواقـع العربي"2 .
فالتراث في فكر الجابري قد شكل القاعدة الأساس التي من خلالها نستطيع تغيير الموقف الفكري الراهن ، لــذلك يطرح هذا المفكر العقلانية كرهان نقدي و فكري ، يساعــــد عـلى تأصيل حداثة فكرية، بدل حداثـة عصر النهضة العربية المستلبة التي زادت من تعميق هــوة الاغــتراب الذاتي للمفكر العربي ، و ضياعه ضمــن قـطبين متعاكسين ، إما الانبهار بالــفكر الغربي و رفض المـوروث بصـفـة مطلـقة ، أو الارتماء في محراب الماضي و تقديسه و رفض الفكر الغربي رفـضا مـطلقا ، وقـد أدى هـذا التشتت في المواقف حــسب الجابري ، إلى افتقار الساحة الفكرية لمنهج علمي دقيق، يـساعد الباحث على رصد الــظواهر الفكرية بطريقة علمية دقـيقـة واعية حيث يقـول : "إنه بـدون التعامل العقلاني مع تـراثنا لن نتمكن قط من تعميم الممارسة العقلانية على أوسع قطاعات العقل العربي المعاصر ، القطاع الذي ينعت بالأصول حينا و السلفي حينا آخر ، كما انه يبدو بدون هذه الممارسة العقلانية على معطيات تراثنا ، لن يكون في إمكاننا قط ، تأصيل العـطاءات الفكرية التي يقدمها أو بالإمكان أن يقدمها قطاع آخر من فكرنا العربي المعاصر ." 3
فتغيير مكونات فهمنا للخطاب الديني ،حسب الجابري يفرض علينا تحريره من سلطة الإديولوجيا السياسية ،التي كانت توجهه و تفرض عليه دعمها ،ومن هنا تحـددت فـاعلية العــقل العـربي في إنتاج وعيها بما يخـدم الساسة و أفكارهم ،وبالتالي تأطير جميع العلوم العربية بسياج سياسي، أدى إلى تحويل مبدأ الفاعلية إلى مفعولية سالبة، حجرت العقـل العربي وحجزته ضمن منظور إيديولوجي مغلق لذلك فإن رهان العـقلانية الذي طرحه بديلا يساعد حتما على ترميم تلك الفجوة الإبستيمولوجية العميقة التي خــرفت العقل العربي جراء تحكم السياسة في مجاله المعرفي، " لقد كانت المواقف السياسية وهي جزئية بطبيعتها يبحث لها عن سند من الدين وكــان ذلك أولى الخطوات التنظيرية التي أسست ما سيطلق عليه فيما بعد اسم علم الكلام،إذن فعلم الكلام في حقيقته التاريخية لم يكن مجـــرد الكلام في العــقيدة بــل كان ممارسة للسياسة في الدين، وعنــدما اتجـهت المعارضة ثم مـــن بعدها الدولة على الموروث كان هـدفها هو توظيفه في نفس الممارسة السياسية في الدين " 4.
وحتى نجتاز تلك الحـواجز الإيديولوجية التي صنعها المتقدمون يجب علينا أن لا نقيد أنـــفسنا بقضايا التراث الماضية دون تعديل ولا نقد،لأن الساحة النقدية والفكرية لطالما أعادت قضايا تراثية واهتمت بجـردها واستهلاكها كما هي ، وبالتالي شــغل العقل العربي المعاصر نــفسه بإشكاليات التراث القديم وهمومه الماضية دون أن يشارك في حل أزماته "إن الساحة الثقافية العربية الـــراهنة التي يتكون فيها العقل العربي المعاصر ساحة غـريبة حقا إن الـــقضايا الفكرية السياسية الفلسفية والدينية التي تطرح فيها الاستهلاك والنقاش قضايا غير معاصرة لنا،إنها قضايا الماضي تجتـر اجـترارا من طرف قسم كبير من الفقهاء والعلماء والأدباء أولئك الـذين يعيشون مغتربين بعقولهم عـن الماضي محكومين بكل سلطاته الظاهرة منها والخفية السياسية والإيديولوجية " 5.
وانطلاقا من هذه الفكرة فإن التراث في بعده المعرفي،أصبح يشكل حلقة إيديولوجية ضخمة أعاقتنا عــن استيعاب واقعـــنا وماضينا بالطريقة الصحيحة، لذلك يدعو إلى قراءته قراءة عقلانية تساعده على الـتبلور فكرا وإرثا ثقافيا له وزنه في حاضرنا بعيدا كل البعد عن التعصب والأدلجة .
و نجده يصر على إعادة فهم ابن حزم والشاطبي اللذين أسسا بحق وعيا علميا جديدا بالنص القرآني وعلم أصول الفقه إذ أخرجاه من دائرة المتعارف والمألوف وصبغاه بصبغة عقلانية ترمي إلى إعادة تفعيل الفكر العربي الذي اختصر في مجال توليد النصوص وتفسيرها .
فابن حزم من خلال منهجه الظاهري حاول أن يقطع الحبل السري مع مجمل الثقافة السائدة، حيث دعا إلـــى التنصل من ســـلطة السلف أي الـــتخلي عـن التقليد وسلطة القياس التي تعتبر أهـم مكونات الـفكر العربي. فالقياس أدى إلى الابتعاد عن الأصول وتشعب النزاعات والـخلافات حــول القضايا والأمور الدينية لأن أهل القياس"جميعهم مختلفون في قياساتهم ،لاتكاد توجد مسألة إلا توجد طائفة منهم تأتي بقياس تدعي صحته وتعارض بت قياس أخرى وكلهم مقرون مـــجمعون عـلى أنه ليس كل قياس صحيحا ولا كل رأي حقا "6
فالجابري يرى أن ابن حزم استطاع أن يعقلن فهمنا للدين ،حيث استوعب الخطاب الديني من منطلق منطقي رافضا بذلك فكرة العلة الفقهية التي أحل محلها فكرة العقل التكويني أي" الانتقال من المقدمتين إلى نتيجة تلزم عنهما لزوما ضروريا،أو الانتقال من لازم إلى ملزوم أومن كلي لـجزئي إلى غير ذلك من القواعد المنطقية التي يجتهد ابن حزم في تطبيقها بل وفي تبييئتها مع موضوعه، والشيء الأساس الذي استبعده ابن حزم استبعادا تاما هو التعليل الذي يبنى عليه القياس الفقهي" 7.
وانطلاقا من الاتجاه الظاهري الذي سلكه ابن حزم في تعامله مع البيان العربي فإن الجابري يدعو إلى التعامل مع التراث مــن منطلق عقلاني لأنه المنهج الأنسب الذي من خلاله نستطيع أن نكتشف الدرر الحسان في الفكر العربي التراثي،وأن نطوع هذه الدرر بما يخدم الواقع الراهن .
فتجديد العقل عند الجابـري إذن هو ذلك التفاعل بين مرحلتين تـاريخيتين على المستوى الفكري، فالتراث هو الوسيلة التي من خلالها نتخطى الأزمة الفكرية الراهنة ،لأنه يــحمل مكونات العقل العربي و يعتبر نتاجا له فاعلية إيجابية ، من خلال إعادة تمثله تمثلا عقلانيا واعيا.
2- نصر حامد أبو زيد :
القراءة التاريخية:
يرفض نصر حامد أبو زيد النظرة السكونية المتوارثة و يدعو إلى صياغة الفكر العربي عامة، انطلاقا من خلخله البنى المعرفية المتأصلة في الثقافة العربية،فهــو يحاول بلورة نــظرته الشمولية على أساس فكرة البعث، أي انه يحاول أن يصوغ التراث خصوصا الديني صياغة جـديـدة باستخدام الآليـات والمناهج الـعلمية ـ بطبيعة الحال ـ الغربية ،هذه الــصياغة إنما كانت مستندة إلى أفكار عـصـر النهضة الغربي خصوصا فكرة "العلمانية" ، و قد تحولت هذه الفكرة عــند أبي زيد إلى رغبة جامحة في إلغاء القداسة عن التراث و فصل التراث كمعطى فكري إنساني عن القرآن "و بعبارة أخرى أدى التوحيد بين الدين والتراث إلى إضفاء الـــقداسة على ذلك التراث، وإلى تحويله من مرتبة النصوص الثانوية إلى مرتبة النصوص الأولية واقتصرت مهمة العقل على التكرار والشرح والترتيب، وقد أدى هذا كله إلى ركود الثقافة التي عززت بدورها ركود الواقع العربي المنتج لهذه الثقافة"8.
لذلك نجده يؤكد على التحرر من سلطة السـلف الدينية التي تحـولـت في وقتـنا الراهـن إلى ايدولوجيا فكرية ودينية ألغت مبدأ العلمية، وفسحت المجال أمام "مبدأ الحاكمية"، الذي أنتج بدوره أنماطا خاصة في التفكير ، قولبت الفكر العربي الإسلامي ضمن مجموعة من الآليات التي يعـد الخروج عـنها ضربا من الإلحاد و الكفر .
وانطلاقا من هذه النقطة فإن أبا زيد يقوم بالتفرقة بين الخطاب الديني والدين باعتباره مجموعة مـــن النصوص التي على ضوئها يفسر القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فهذه النصوص هي التي تساعد على فهم النص القرآني، أما الدين في نظره فهو عبارة عن نص مقدس ثابت تاريخيا.
و بالتالي فهو يحاول تأسيس منظومته الفكرية على نقد تلك النصوص التراثية "التفسير،الاجـتهاد، الاستنباط "، و التي يرى بأنها غيبت العقل و الوعي العلمي العربي و جعلت الثقافة العربية ككل تختزل في آلية تفسير النصوص و شرحها، حيث يقول:" هكذا تحددت قوانين إنتاج الـمعرفة في الـثقافة العربية على أساس سلطة النصوص وأصبحت مهمة العقل العربي محصورة في تـــوليد النصوص من نصوص سـابـقة"9 . لقد أصبحت أقوال العلماء واجتهاداتهم نصوصا مشرعة وانحصرت بذلك مشروعية العـقل العربي في مجال محدد وهو مجال توليد النصوص وشرحها، و قد استفحلـت هذه الظاهـرة لتـشمـل العـلوم العربية برمتها، حيث يقول :" واقتصرت المؤلـفـات على أن تـكـون شروحا لمؤلفات سـابقـة و قد يوضـع المـتن في الهـامـش الجـانبي و يـتناول الــشـرح عـبارة الأصل المشروح عبـارة عبارة بـشرحها اللغـوي والفقهي و بيان ما غمض من شأنها ثم تكثر الشروح على الشروح، ولم تنج العلوم العقلية من المصير ذاته وصارت كتب علم الكلام المتأخرة شروحا على متن قديمة " 10 .
ومما ساعد على تثبيت هذه الآلية و تعميقها في الفكر العربي إلى وقتنا الراهن هـو نمطية الخطاب الديني المعاصر الذي يحاول تأصيل السلفية لخدمة أغراضه الايـدولوجيا " وجعل الإسلام الإطار المرجعي الوحيد لكل معرفة ولكل ممارسة وسلوك" (11) ، لــمواجهة الآخــــر المسيحي الذي أصبح يشكل أحد طرفي المعادلة النهضوية،وقد استغـل هذا الأخير موقف"الإطارالمرجعي الوحيد" ورسخ فكرة أن الإسلام هو العامل الأساس لتخلف الـعرب والمسلمين، و قد قامت الجماهير العربية باحتضان هذه الصورة السلبية وأعادت صياغتها في ذلك التشتت الفكري الذي شهده عصر النهضة العربي حيث انقسمت الساحة الفكرية إلى تيار علمي علماني و إلى تيار ديني إصلاحي.
ويرجع أبو زيد فشل النهضة العربية إلى غياب وعي علمي بالتراث و تعقد عـلاقتنا بالآخر، بالإضافة إلى إهدار التاريخية من السياق الـثقافي العـام. فالتاريخية كمفهوم إجرائي حسـب أبي زيد يستطيع أن يحرر الفكر العربي من سطوة التراث وشمولية الفكر الديني،الذي اختزل العـقـل العربي فـي مفهوم ماضوي ســلبه إمكانية الـتطور و التقدم .
فالخطاب الديني منذ عصر التدوين سطر طرائق خاصة في الـتفكير،وتعتبر القداسة والسلطة من أهــم إفرازاته ،لذلك فإن أبا زيد يبدأ من المسلمات التي رسخها الخطاب الديني التراثي و جعلها قواعد شرعية،وذلك بنسفها و إلغاء القداسة عنها و أول قاعدة يبدأ بها هي قضية"خلق القرآن".
فهو يرى بأن القرآن باعتباره خـطابا إلاهيا لا يعني عدم قابليته للتحليل وفـقا للمناهج العلمية الغربية ،لأنه تجسد باللغة الإنـــسانية "العربية"،و بالتالي فهو نص تاريخي له وجـوده الفعلي في الزمان والمكان،لذلك يجب علينا أن نـفهم الـقرآن فهما مغايرا ومحايدا عما ورثناه،لأن الخطاب الديني المعاصر يهدف إلى ترسيخ الماضي في الحاضر كما هـو، بالإضافة إلى أنه ضاق عن استيعاب الواقع المعاصر وعـجز عن التعبير عن مشاكله، وبالتالي فإن تغـيير واقـعنا حسب أبي زيد مرهـون بتغيـير موقفنا من التراث، و بتجـديد طريقة فهمنا للـقـرآن.
3- محمد أركــون :
الإسلاميات التطبيقيـة :
خطا نقد الفكر العربي والإسلامي بصفة عامة عند أركون خطوات نحو إقامة قطيعة معرفية مع الكتابات الإيديولوجية التي قرأت التراث،وذلك بإرساء أسس المـناهج الغربية كتقنيات إجرائية تساعد على بتر الصلة مع التيارات السلفية العربية والثقافة السائدة ، بغية إقامـة منهـج علـمي حديث يتجـاوز نـظام الفكر المؤسس،و ذلك لتحقيق التغيير الاجتماعي و الفكري على حد السواء.
وفي هذا الإطار ينطلق محمد أركون من نقد الإسلاميات الكلاسيـكية ( الاستشراق) الـتي يـرى بأنـها تناولت الفكر العربي الإسلامي تناولا خارجيا وظيفيا لا يتعدى حدود الدراسة الشكلية البحتة ، فهي لم تدرس ذلك الفكر من"خلال عملية انخراط ابستمولوجي كاملة " (12) ، بــهدف الــوصول إلى مكامن الضعف في الثقافة العربية الإسلامية، وإيجـاد الحلول المناسبة لتخطيها, و إنما كـــان هدفها هو تثبيت مـركزية الفكر الغربي،"و من الواضح أن منهجية الاستشراق لا تؤدي في معظم الأحيان إلى تعرية الـمشاكل وآليات الهيمنة والتسلط السائدة في المجتمعات العربية الإسلامية و هي تبدو في معظم الأحيان متواطئة مع الأرثوذوكسية و الـفئات المهيمنة داخل هذه المجتمعات بالذات، فهي باختصار لا تـؤدي إلى تحرير الفكر وهو آخر شيء تفكر فيه " 13.
يـدين أركون الإسلاميات الكلاسيكية لقصور منهجها عن احتواء الفكر العربي الإسلامي بطريقة علمية تساعده على تجاوز محنه الكثيرة و مآزقه الابستمولوجية ، لذلك نجده يرفض آليات الفكر الاستشراقي لأنها تحصر التراث العربي و الإسلامي في مجال الدراسة السطحية الخالية من أي محاولة نقدية جدية ،وبالتالي اختزال فاعلية الـفكر العربي الإسلامي في بوتقة المبدأ الاختياري، الذي شنه المستشرقون كأساس لدراسة ذلك الفكر. ومن هنا فإن الاستشراق –حــسبه- يساهــم فــي " ترسيخ ما يدعوه أركون بالسياج الدوغمائي المغلق ، في حين ينبغي على الباحث أن لا يكتفي بنقل الـــتراث كما هو ولكـن بعد نـقله يـبتدئ بتفكيكه و تشريحه عـــن طـريق الدراسة النقدية حتى تستفـيد منه المجتمــعات بصورة إيجابية "14 .
فــدراسة الــموروث الفكري العربي من قبل المستشرقين حجب الكثير من التفاعلات الفكرية العربية وسار بالـموروث في اتجاه المـوقف الإخــباري ،لأن الباحـــث الغربي حــرم الفكر العربي و الإسلامي من الدراسة العلمية القائمة على أساس تطبيق الإجراءات المنهجية الحداثية كالألـــسنية و الأنتروبولوجيا والتفكيكية وغيرها من الإجراءات العلمية، التي تساعد على كشف حـــقائق الـفكر الـــتراثي العربي الإسـلامي والـمساهمة فـي تغيير واقـعه الفكري المتأزم، اكــتفى بسجنه في إطار الاثنوغرافيا (الـنظرة الفـلكلورية الإحتـقارية) كمنهج الدراسة .
لذلك يندد أركون بتلك المواقف الغربية خصوصا ،"بالـموقف السائد للفكر الغربي اتجاه الثقافات الأخرى التي يتحكم بمسارها و تطورها عن طريق فرض نماذجه و قوالبه... أقول إن عليه أن يـتراجع من النظرة الإثنوغرافية التي يحملها تجاه الثقافات الأخرى, في الوقت الذي ينبغي عليه أن يـطبق على المجتمعات الغـربية نفسها و عـلى تراثاتـها الثـقافـية منهجية المقاربة الأنثروبولوجيا ضمن الخط الذي افتتحــه، (George blindiez) جورج بلانــديــه أو (pierre Bourdieu) بــيـير بـوروديـو،ينبغي أن نلاحظ أن الفكر الغربي يرفض الانخراط في خط كهذا"15.
فالـفكر الغربي إذن يزاوج بين منهجين للدراسة أحـدهما علمي دقيق يطبقه على ثقافته وموروثه الفكري، والآخر إيديولوجي يهدف من خلاله إلى تثبيت مركزيته الفكرية والإعلاء من شأن صورته العلمية، وهذا بـدراسة الموروث العربي الإسلامي دراسة إسترجاعية، تقوم على ســرد المواقف السالبة في هذا الفكر بالإضافة إلى حـصره في التجليات الأصولية المتزمتة للدين، أي تأطيره ضمن (سياج دوغمائي مغلق).
يقصد أركون بهذه الفكرة سيطرة الفكر الديني السكولاستيكي على واقع الثقافة العربية الإسلامية، وخلوها من أي فــكر فلسفي أو علمي يساعد على تطوير الواقع الثقافي وبالتالي سجن العقل العربي والإسلامي بصفة عامة في عملية استنباط الأحكام من النص المؤسس "الـقرآن"، ومحاولة تطبيقها على الواقع مما أدى إلى تنميط فاعلية العقل العربي في آلية توليد النصوص كما يقول أبو زيد.
ويثور أركون على هذه الآلية محاولا إقامة بديل فكري يساعد العقل العربي والإسلامي على تخطي أزمته، وهذا  وهي حسبه عـبارة عن "قراءة ماضي*البديل يطرحه في فكرة الإسلاميات التطبيقية، الإسـلام وحاضره انطلاقا من خطابات المجتمعات العربية الإسلامية وحاجاتها الحالية".16
فهو يسعى إلى تحليل الواقع الفكري والاجتماعي بعيدا عن سلطة السياج الـدوغمائي المغلق و ذلك بتطبيق مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية والتي يعتبرها وسيلة ناجعة لإبطال مــقولة أن الـتراث هو ذلك الـمعطى الفكري المكتفي بذاته،والذي نستطيع توظيفه في واقعنا المعاصر لحل أزماتنا الفكرية الراهنة،لذلك يــحــاول النفاد إلى عمق المشكلات من خلال ، "عملية انخراط ابستيمولوجي كاملة "17.
ومن خلال نقد العقل العربي والإسلامي يحاول أركون صياغة الموقف الإشكالي العام، والذي يتمثل في تلك العلاقة القائمة بين التراث والحداثة فهذه الإشكالية حظيت طيلة سنوات كثيرة باهتمام كبير من قبل النقاد و المفكرين، الذين ترصدوها منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا، و قد صيغت هذه الإشكالية بطرق مختلـفة أدت إلى ثـــراء الساحة النقدية والفكرية بالكثير من المواقف المختلفة والمتضاربة في أغلب الأحيان، ويحاول أركون حل هذه الإشكالية من خلال إرساء (وعي تاريخي) الذي أحله محل التفسيرات اللاهوتية والأسطورية، و ذلك حتى يكتسب الفكر العربي الإسلامي بعدا علميا أكثر،و نجده في هذا الصدد يميز بين مصطلحين متقاربين (الحداثة و التحديث) ، و يرى بأن هذا الأخير (التحديث) مقتصر فقط على تطبيق المناهج الغربية و الفكري الغربي بطريقة آلية على الواقع الفكري الإسـلامي العربي دون أي خلق أو محاولة تعديل، أما الحداثة التي يعنيها هذا المفكر فهي التي تتخطى حـدود الزمن و تلغي حواجزه لأن الحداثة أكبر من أن تؤطر بسياج التاريخ فـهي "موقف للروح أمام مشكلة المعرفة"18 .
ومن هنا فإن أركون يدعو إلى حداثة علمية واعية تتجاوز كل أنماط التحديث السطحي،و ذلك من خلال قراءة " جـديدة بعيدة كل البعد عن*الموروث و الواقع الفكري قراءة إنسية " Humanisme  الاتجاه القروسطي،الذي يشكل نوعا مـن الوصايا الفكرية على النتاج العقلي العربي الإسلامي، فإذا استطعـنا التحلل من ذلك الاتجاه حسب أركون استطعنا أن نتحرر من قبضة الثقافة الموروثة و أن نعتلي أول درجة في سلم التطور الفكري و العقلي.
 الهوامش:
1- عبد الوهاب شعلان : إشكاليات الفكر العربي المعاصر في أطروحات أركون ، الجابري العروي ، حسن حنفي ، علي حرب، مكتبة الآداب القاهرة ، ط1 2006 ، ص26
2- المرجع نفسه : ص 26
3- عابد الجابري :-بنية العقل العربي : دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ط1 1986 ص 552
4- محمد عابد الجابري : تكوين العقل العربي مركز دراسات الوحدة العربية بيروت دار الطبيعة ط 1 ، 1984 ، ص 303
5- محمد عابد الجابري : بنية العقل العربي ص 572 -
6- محمد عابد الجابري : تكوين العقل العربي ص 303
7- المرجع نفسه :ص 305
8- نصر حامد أبو زيد: النص السلطة الحقيقة, المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب, الطبعة الخامسة 2006. ص20
9- المرجع نفسه ص19
10- المرجع نفسه ص20
11- المرجع نفسه ص20
12- عبد الوهاب شعلان : إشكاليات الفكر العربي المعاصر ص18
13- محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد و اجتهاد, المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر, د ط , 1993 ص194
14- فارح مسرحي : الحداثة في فكر محمد أركون مقاربة أولية, الدار العربية للعلوم الجزائر ط1 2006, ص102-103
15- محمد أركون : الفكر الإسلامي، ص32
16- المرجع نفسه : ص31-32
17- عبد الوهاب شعلان :إشكاليات الفكر العربي المعاصر ، ص 18
18- المرجع نفسه : ص  2