هذا هو الجزء الاول من نص المداخلة التي قدمتها في حلقة النقاش حول التعليم و الديمقراطية التي نظمها نادي الكلمة الحرة يوم الإربعاء 20 جويلية 2011 بفضاء دار الثقافة .
مقدمة
"تمثل التربية أعظم و أعوص مشكل يمكن أن يطرح على الإنسان."إيمانوال كانط
قد يذهب في ظن البعض أن الاهتمام بمسألة التعليم و الديمقراطية من قبل الأحزاب و مكونات المجتمع المدني غير مهمة اليوم بالنظر إلى واقع تكوين الأحزاب و الجمعيات و النوادي في بلادنا التي تعاني أصلا من عزوف القوى الحية من الشباب و الكهول على المشاركة في النقاشات العامة,فالأحزاب الناشطة حديثا منصرفة اليوم إلى مسألة التعبئة السياسية لمواجهة قوى الثورة المضادة التي لا تزال تعيق مرحلة التحول الديمقراطي,هنا عند هكذا أمر يجب أن نتوقف كثيرا.إذ لا يجب على الأحزاب السياسية و مكونات المجتمع المدني أن تتأخر عن مصارعة قوى الثورة المضادة في مجال حيوي مثل التربية و التعليم الذي تصنع فيه العقول و يتشكل فيه مواطن المستقبل.فإذا تربى المتعلم على التفكير و النقد و الديمقراطية فقد كسبت رهانا وطنيا و إنسانيا لا يضاهيه رهان.
تتفق قوى الثورة تقريبا على أن من بين أهداف ثورة شعبنا المجيدة تحقيق الديمقراطية.,و انطلاقا من الوعي بهذا الهدف نتساءل اليوم عن دور التعليم و التربية في تحقيق هذا المطلب المنشود.
نحن لدينا قناعة تفيد أن الديمقراطية ليست مجرد نظام حكم بل هي قيمة وممارسة نتعلمها و نتربى عليها و ليست معطى جاهزا بل هي مكسب صعب المنال
ـ من أجل تحديد دور التعليم و التربية في تحقيق الديمقراطية من الناحية النظرية لا بد في مرحلة أولى من تحديد دقيق لمعاني التعليم و التربية و الديمقراطية .كما نحدد في مرحلة موالية فضاءات تعلم الديمقراطية و ممارستها,أما في القسم التطبيقي فسأعود فيه إلى القانون التوجيهي للتعليم لسنة 2002 و علاقته بالممارسة الفعلية صلب المؤسسات التربوية في بلادنا.لأخلص أخيرا إلى تحديد ملامح مشروع الإنسان المتعلم في المستقبل.
القسم النظري
المفاهيم:التعليم,التربية.الديمقراطية.
نعني بالتعليم النشاط الذي يكتسب من خلاله المتعلم جملة من المعارف و المهارات تدريجيا وفق مراحل تأخذ في الاعتبار النمو الحسي و العقلي للشخص ( بياجيه).
و يعتبر ابن خلدون في الباب السادس من المقدمة أن" التعليم ملكة تختلف عن الفهم و الوعي " أي أنه لا يكفي أن تكون عالما بعلم معين حتى تستطيع تعليمه.فالتعليم كما أسلفنا فن أو صناعة تكتسب و تختلف طرقه من مدرسة إلى أخرى و من عصر إلى آخر.كما يعتبر ابن خلدون أن انتشار التعليم مؤشر أساسيّ على تطور العمران و قيام الحضارة.إذ ينتشر التعليم كما و كيفا بانتشار العمران و يقل كما و كيفا كذلك بقلة العمران.
قد يبدو التعليم من خلال التحديد السابق سيما التحديد الخلدوني مقتصرا على مجال العلم و المعرفة ,فهل أن ربط التعليم بالديمقراطية لا يكون إلا لجهة المعرفة و العلم وحسب؟
إن الديمقراطية في هكذا سياق هي موضوع معرفة و علم يشمل الاشتغال على المفهوم و تاريخ ظهوره و تحديد خصائص أنظمة الحكم و مقارنتها ببعضها البعض و تحديد شروطها و أسسها على المستوى النظري.و يمكن تسمية هذا العلم بعلم السياسة من حيث أنه يهتم بالدراسة الوصفية لأنظمة الحكم و آلياتها و التي يمثل نظام الحكم الديمقراطي أحد أشكالها. و لهذا فمعرفة الديمقراطية نظريا لا يعني أن الإنسان قد أصبح ديمقراطيا على المستوى العملي التطبيقي.من هنا لا بد من ربط التعليم بالتربية.وبالتالي نعيد طرح السؤال بطريقة جديدة:كيف يمكن تربية الإنسان على الديمقراطية فيظهر ذلك من خلال الفعل و الممارسة؟
علينا إذن أن نحدد معنى التعليم في علاقة بالتربية و هو ما لم يهتم به ابن خلدون كما تبينا من خلال التحليل السابق.
التربية معجميا مصدر فعل ربى يربى بمعنى أصلح و قوم وتفيد الرعاية و التقويم فالوالدان يربيان أبنائهما بمعنى الرعاية و التقويم.وفي نفس السياق تعني التربية التأديب أي تنشئة الإنسان على جملة من آداب السلوك القويم,
فإن كان التعليم يرتبط بالمعرفة النظرية فإن التربية ترتبط بالسلوك و الأفعال الصادرة عن الإنسان.
غير أن هكذا فصل مجرد إجراء منهجي لا يصمد أمام التجربة الواقعية,إذ أن المعرفة لا تنفصل عن الفعل حتى إن بلغت درجة التأمل الخالص,و فعل الإنسان لا ينفصل عن المعرفة مهما كانت محدودة.
و إذا أردنا تحقيق التوازن في شخصية الإنسان فيجب أن يكون سلوكه مرتبط بمعرفته و معرفته مرتبطة بسلوكه.من هذا المنطلق فالديمقراطية ليست مجرد معرفة فكم من عالم كان عدوا لدودا للديمقراطية بشكل مرضي ينم عن خلل ما في الشخصية , إن الديمقراطية معرفة و فعل في نفس الوقت لا يرتبط في تقديرنا بالشأن السياسي فحسب و إن كانت تعني في البداية شكلا من أشكال الحكم يقوم على حكم الشعب نفسه بنفسه,بل هي أيضا قيمة تظهر من خلال أفعال الإنسان و سلوكه.لهذا نقدر أن مفهوم الديمقراطية قد تطور من مجرد كونه شكل من أشكال الحكم إلى قيمة مركبة تحكم السلوك تتضمن معاني الاعتراف بالاختلاف في مجالات متنوعة من الحياة الإنسانية مثل الاختلاف بين الثقافات والاختلاف بين الآراء و الاختلاف بين الأديان بل التأسيس لذلك في مجالات واسعة من التجربة الإنسانية لا تشكل التجربة السياسية إلا إحدى مظاهرها.إذ يمكن أن نتحدث في هذا السياق عن التعليم الديمقراطي و التربية الديمقراطية.
فماهي خصائص التربية و التعليم الديمقراطيين؟
التعليم الديمقراطي مصطلح حديث يعني أن حق التعلم تضمنه الدولة لكل مواطن بلغ سن التعلم بصرف النظر عن انتمائه الاجتماعي أو جنسه أو لونه أو معتقده.ويعد هذا الأمر مكسبا من مكاسب الدولة الحديثة حيث كان التعليم قديما و في العصور الوسطى حكرا على بعض أبناء الطبقات المسيطرة, صاحبة النفوذ.أما التربية الديمقراطية فهي مصطلح حديث رافق المطالبة بحرية الإنسان و القطع مع أشكال الوصاية التي لا تحترم استقلالية الفرد منذ الطفولة.يقول روسو أحد فلاسفة الأنوار و أدبائه في كتابه الذي خصصه للتربية تحت عنوان"إميل أو عن التربية":" ليس المهم مقدار ما يتعلم الطفل بل المهم ألا يفعل الطفل أمرا يخالف إرادته."
في الجزء المقبل نهتم بفضاءات التربية و التعليم.